الحراك الاجتماعي وجمهورية الريف

أكيد أن التطورات الأخيرة لحراك الريف، والتأويلات والتموقعات والمواقف المختلفة إزاء هذا الحراك الذي أعاد الحياة لحقيقة أن القضايا/ المطالب الحقيقية لا تمت حتى ولو تم تغيبها من برامج القوى والفعاليات التي فضلت تحول إلى التغليط والتوهم بأن الخلل في الناس والمجتمع وليس الدولة التي تسير في البناء الديمقراطي أسرع من المجتمع المدني، ورغم ارتفاع نسبة خدمات التعليم والصحة والعدل والبيئة والشغل؟.

إن التطورات الجارية والسيناريوهات المحتملة لهذا الحراك الساخن، تتطلب من الجميع، خصوصا الفاعلين الوطنيين والتقدميين، المقاربة والتفسير البارد والهادئ لهذا الملف الساخن والمتمدد، لأن الأمر ليس موقفا مساندا ومشرعنا يقابله موقف مخينا للحراك ومعتبرا إياه مجرد مؤامرة مدعومة خارجيا و....

إن هكذا وضع يستوجب التساؤل حول الشروط الموضوعية للحراك قبل محركيه، وفي هذا الصدد فإن المطالب الاجتماعية والاقتصادية للحراك، هي مطالب موضوعية وتعم عدة مناطق أخرى، شكلت 20 فبراير تعبيرها الاجتماعي والسياسي الصادق والحقيقي، رغم أن للريف مميزات عن المناطق الأخرى، تكمن في الماضي العنيف للعلاقة مع الدولة، وللدور الريادي والتاريخي في النضال ضد المستعمر والتي شكلت معركة أنوال ذروتها وشكل محمد بن عبد الكريم الخطابي قائدها مرجعا في الآداب الثورية لحركات التحرر العالمية، خصوصا في تكتيكات حرب العصابات ضد الجيوش الاستعمارية الكبرى، وهكذا فالريف له من العمق التاريخي والتراكم السياسي ما يجعله شامخا ووطنيا حتى النخاع، ولا يمكن لأحد أن يزايد عن وطنية سكان الريف وفي نفس الوقت لا يمكن الاستمرار في سرقة الخدمات التي تعتبر حقوقا أساسية للمواطنين، وفي نفس الوقت اعتبار احتجاجاتهم تخدم مخططات التقسيم الامبريالي الصهيوني للمنطقة.

إن محمد بن عبد الكريم الخطابي الملقب بالأمير استطاع توحيد أكثر من 80 قبيلة ريفية على أرضية بناء جهاز عدل حقيقي، شكل قوام الجمهورية الريفية التي هزمت الجيشين الفرنسي والاسباني معا في أنوال، مما استدعى المستعمر باستعمال أسلحة الغاز المدمر وأباد الكثير خصوصا في أجدير، وفي منفاه وبتنسيق مع حركات المقاومة والتحرر لتونس والجزائر، حيث تم تأسيس مكتب اتحاد المغرب الإسلامي من هاته الحركات تحت رئاسة الأمير الخطابي، واعتبار كل قطر مغاربي حصل على استقلاله يبقى ملزما بالمقاومة حتى استكمال استقلال المغرب الإسلامي تحت دولة موحدة، والجمهورية الريفية كانت هي القاعدة المتقدمة لهذه الوحدة المغاربية الإسلامية.

هكذا كان الريف ولا زال، وهو ما أكد عليه مرارا زعماء الحراك في تصريحاتهم الموجهة لمكونات الحكومة وأغلبيتها، بعد تخيينهم للحراك، ثم التراجع وشرعنة المطالب، حيث قال الزفزافي ناصر: عليكم أن تقرؤوا تاريخ الريف، وأنكم أنتم بأعمالكم ومواقفكم من تدفعون في اتجاه التمزيق والفتنة؟.

لم تقف الدولة العميقة عند خطئها الأول في دفع قيادات الأحزاب بتخوين حراك الريف، بل أضافت عليه خطأ أخطر وهو إقحام أئمة المساجد في الهجوم على حراك الريف وامتداداته واعتبارها خيانة وطنية وفتنة ملعونة، مما استوجب استنكارا وتنبيها لخطورة هذا التوظيف للمساجد الواجب بقاؤها خارج هذا الصراع السياسي والاقتصادي والذي ليس في عمقه سوى صراع بين المقهورين وسارقي ثروة الوطن المحصنين، كما جاء في بيانات الحراك والجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنتدى الشمال والعدل والإحسان والنهج الديمقراطي وهيئة المحامين وتنسيقيات 20 فبراير لأغلب المدن المغربية.

والآن هناك تصعيد رسمي باعتقال وجوه بارزة في الحراك الريفي وفي مقدمتهم الزفزافي، بالإضافة إلى العشرات وإغراق مدن الريف بالقوات العمومية، هذا التصعيد ليس بإمكان الدولة الاستمرار فيه، لأنه لا توجد حجج حقيقية بتخيين المعتقلين، وثانيا استمرار الاعتقال سيخلق قاعدة عريضة من الاعتقال السياسي الذي هو عنوان خنق حرية التعبير، وثالثا لن يأتي التصعيد بحل للملف أي تحقيق المطالب التي هي حقوق وليست امتيازات، والمغرب بدولته العميقة والسطحية وفئاته المهيمنة وطبقته السائدة، وخيراته الباطنية والسطحية، المعلنة منها والغير المعلنة، قادر على حل المشكل ليس فقط في الريف بل في كل مناطق التهميش، حيث تزداد معانات حياة اشعيبة/ الشعب الفقير والعريض.

إن الحل موجود وثمنه هو تنازل المستفيدين عن جزء مما سلبوه وإرجاعه للشعب كخدمات دائمة تضمن سيولتها تصريحاتهم بالممتلكات وأداء الضرائب عنها.

وهو عمق المشكل الذي شكل موضوعات التصادم السياسي بمختلف مراحل الصراع السياسي منذ الاستقلال، إلا أن حجم استفحال الريع ازداد مؤخرا بوثيرة سريعة، أنتجت 20 فبراير قبل الريف والآتي أكبر إن لم يقبل المنتفعون بإعطاء "اشعيبة" حقه.

نتمنى أن يشكل نداء إلياس العماري بعقد ندوة أو منتدى وطني لكل الفاعلين المحليين والجهويين والوطنيين، لمناقشة الحراك الريفي والخروج بتوصيات، تحت إطار المجلس الجهوي بطنجة تطوان الحسيمة، ومساهمة منا كملفات تادلة نعتبر الجهوية حلا موفقا لمعضلات وطننا العزيز، لكن جهوية حقيقية ككيان سياسي قائم الذات له سلطة في تقرير والتنفيذ والتزامات إزاء الدولة المركزية التي لها القطاعات السيادية، وليس تفاصيل الحكم، ولا نعتقد أن الجهوية بشكلها الحالي قادرة على هذا حتى على مستوى العنصر البشري، ولأن تحقيق الجهوية الحقيقية هي مطالبة النظام بترك الحكم للمؤسسات والاحتفاظ بالسيادة، وهو ما ربحه المخزن في معاركه منذ الاستقلال والتي انتهت باحتلال الأحزاب الوطنية بعد أن طلقتها قواعدها، فلا يمكن للمخزن أن يسمح للجغرافية أن تنزع منه ما ربحه في التاريخ، لكن في علم الاجتماع السياسي هناك مقولة ثمينة مفادها أن السياسة ميزان قوى وفن الممكن وربط المرحلي بالاستراتيجي.