- حدثنا السيد عبد الرزاق لفحل، من درب الخروب رجل في الخمسينات من عمره، ليس له شغل قار،يسكن غرفة في منزل له فيه أيضا مطبخ صغير، يتقاسم مرحاضه الوحيد مع باقي القاطنين من الجيران، حدثنا عن معاناته هو و زوجته.
2- زوجته الزاهية، ربة بيت،تشتغل عاملة في المنازل، و هما في خضم معركتهما اليومية من أجل أبنائهما التسعة الذين لم يكمل أي منهم تعليمه.
3- هشام الذي غادر الحي و الوطن منذ سنين، يقول البعض انه غرق في البحر بينما الوالد عنده يقين بان هشام سيعود يوما بحقائبه المملوءة نقودا و هدايا.
4- إبراهيم الإبن البكر،القابع دوما في إحدى زوايا الغرفة لم يعد قادرا على المشي، يعاني من إعاقة مستديمة في رجله التي ظل، يوم انهزام فريقه، يدميها تشريطا بشفرة حادة حتى تقطع عصبها و فار منها دم غزير،ملأ الأرض تحت قدمه و هو في حالة صراخ هستيري بعد إسراف في تناول الأقراص المهلوسة متحديا، بكل ما فعل برجله صديقه و خصمه "حسن الكوايري ولد المزابية"، الذي غادر قبل أيام السجن و قال له حين التقاه، "إني أقوى منك و لن تقدر علي في شيء،إن كنت رجلا فافعل مثلي"،كاشفا عن ساقه المملوءة جروحا و ندوبا.
الأبناء الآخرون يقضون يومهم متسكعين،يتناولون كل أصناف المخدرات، و يقترفون كل أشكال الجرائم و الجنح، يخلون ساحة الحي نهارا و يروعون أهله ليلا، يمتهنون السرقة لكسب قوتهم اليومي.
5- سفيان يهوى على راس إبن الجار بعصا غليظة حتى كاد أن يهشمه، فصاح أخو الضحية عباس بان لا سلم بعد اليوم و ستهشم كل الرؤوس.
6- خالد، الذي تم القبض عليه بعد الاهتداء إلى مخبئه، حيث تم العثور على المحجوزات من الهواتف وكل ما تحمله الحقائب النسوية.
7- عمر حين قرر مغادرة المدرسة دون رجعة، اغضب المعلم و كال للحارس وابلا من السباب و الشتائم، توعده بحرق دراجته النارية.و هو يوم لا ينسى عند أهل الحي، حين دخل عمر في صورة الفاتح راكبا جحشا ضالا صادفه في الطريق، فأخذه بقبضة يده من عنقه و بالقبضة الأخرى يخزه بسكين صغيرة في جنبه لكي يسرع، فيترنح الحيوان المسكين و يكاد يُسْقِط عمر الذي كان يومها في أتم فرحه و نشوته لأنه مدرك انه تحرر من سجن المدرسة و سيمتع أطفال الحي كل يوم بمغامرة جديدة، و هم يصيحون وراءه : "وا الحمار وا عمر... وا عمر وا الحمار...".
8- رضوان، أصغر الذكور، يتسلل داخل السيارة السوداء الفخمة و يمكث مع صاحبها عبدالغني بضع دقائق متكلما و مستمعا، يتسلم لفافة و علبة، و ثارت ثائرته حين اكتشف خيانة الرجل له بذكر اسمه عند الشرطة.
9- رشيد انفجر في وجه أمه و أبيه و وصفهما بأولاد الزنا، لأنه سئم و لم يعد يطق سماع صوتهما ليلا في الغرفة الواحدة يكتمان الأنفاس تارة، و تخذلهما لحظة الذروة تارة أخرى في التحكم، فتتحول هنيهة اللذة إلى فترة حرجة و عصيبة عند رضوان و سعيد.
10-سعيد الذي يطلق حينها العنان لموسيقى هاتفه المحمول، علّها تطرد صوت تأوهات أمه الزاهية، في عراك جنسي مع زوجها، الصوت الموقظ لأوجاع النفس الأمارة بالسوء، و ينبغي أن يكون هذا الليل سوءا على قاطني المنزل والحي كله. بعد أن يغادر رشيد رفقة أخيه سعيد ما أضحى في نظرهما وكرا للدعارة، فيضرمان نار الفتنة في المنزل لأي سبب و ينغصان على ساكنيه سكون الليل و هدوءه، و تكون البداية بدفع باب الغرفة بكل قوة و عنف شديدين، و باصطدام رجل سعيد ،و هو يهم بارتداء حذائه الرياضي النتن، بالسطل المملوء ماء و أكوابا في العتمة فيكسر الزجاج و يسقط قارورة الغاز و معها الفرن، و يهرق الماء و يغمر وسط المنزل، و تقوم القيامة لان الماء تسلل إلى فراش الجيران، و عكر على زوجين جوهما الحميمي و هما يهمان بمعانقة بعضهما البعض. يكون رشيد أول المغادرين و هو في حال سخط و اختلاط ذهني تاركا المنزل مشتعلا بنيران غضب كل الجيران من قاطنيه،و لا يدرك احد لماذا تسلق رشيد فجأة عمود النور القصير، و مد يده ليلوي عنق السلك ليطفئ الضوء و يعم الحي الظلام، بعد أن يكون قد أصيب بصعقة كهربائية أردته طريحا على الأرض، و هو يترنح من شدة الإصابة.
بينما سعيد يقف إلى جانبه عاري الصدر مشهرا سكينه العظيم و هو يصيح بأعلى صوته:"اخرجوا إلي يا أولاد درب الخروب، هاد الليلة إما أنا أو انتم".و الجميع يعرف السر إلا أنهم لا يعرفون السبب.
11- نجاة آخر العنقود، ظلت الأم مواظبة على الإنجاب كل سنتين و خاضعة لماكينة الجنس للظفر بها كبنت، بعد وضع ثمانية ذكور، نجاة وحدها تساعد والدتها في الأشغال الشاقة في المنازل رغم صغر سنها، و تنال من الضرب المبرح من أحد أشقائها ما يشاء حتى تنصاع لإرادته بأن تمده بما يطلب من نقود في لحظات أزمته المادية القصوى و احتياجه الشديد لمخدره والأم تتابع نمو و ترعرع جسد البنت نجاة كمشروع مستقبلي لا مفر من المراهنة عليه.
كان الظلام رهيبا والأمواج هائجة تكاد تقلب القارب بين لحظة وأخرى. لم يكن وحده بل عشرات من أمثاله يحاولون العبور.
صور بدأت تتراءى أمامه، غرفة واحدة، أثاث ضئيل تفوح منه رائحة الفقر، أم دائمة الغياب، درس ولم يفلح.
تذكر هشام السعدية، حب حياته، قضى معها أجمل أيامه في الممرات الضيقة للحي، في العوينة، وبجانب معمل "الخرقوم" مقر عملها.
اتفق مع عبدالغني على الموعد والإشارة، وفي الرابعة ليلا كان بالساحل الغربي لطنجة، لتفادي الشرطة، فاجاءه بعد الإشارة خروج أشباح بشرية كسراب النمل من شعاب رمال البحر، تزاحم الجميع بقلوب واجفة ووجوه مصفرة، قال أحدهم: "عاهنا ولا لهيه، عاربحة ولا ذبحة".
ثقل القارب بمن عليه وبدأ يغرق شيئا فشيئا: صراخ يتعالى ورعب بارد تسلل إلى قلبه. أخذ العالم يغيب عن عيني هشام بوجهه الأسود رافضا مساعدته.
هذه المآسي الأدمية، هل تعجز دولة العقل على وضع حد لتفشيها وتفاقمها، مما يعطي صورة لمجتمع غير مختل. فبتعمق هذه المآسي تعطى لطرح سؤال شرعية الحكومة مبرره، فلا شرعية لحكومة لا تقوم بدورها الذي من أجله هي قائمة ألا وهو حفظ كرامة مواطنيها ذكورا وإناثا، صغارا وشبابا وكهولا وشيوخا وصيانة حقوقهم المشروعة بضمان نصيبهم من العيش الكريم في ظل سياسة نشيطة في دوائر ومجالات إقرار حقوق الإنسان كما هي في البلدان المتقدمة التي وعت ما للمواطن والمجتمع من حقوق اجتماعية على الدولة بما تضعه من خطط وبرامج.
حين يواجه الطفل الرابع أو الخامس والده العاجز بالسؤال: "لماذا إذن أتيت بي إلى هذه الدنيا إن لم تكن قادرا على أن تضمن لي العيش الكريم؟"، فهو بذلك يوجه هذا السؤال للدولة والحكومة التي تنشط بعشوائية وتخبط ونهج لسياسة الحلول الترقيعية دون تخطيط علمي وعقلاني.
كل هذا الفائض البشري الذي يملأ المساكن وتغص به الأزقة والطرق والمقاهي وتكتظ به الأقسام والمستشفيات العمومية ومستوصفات الأحياء الشعبية وساحات البحث عن الشغل، كل هذا الزحام على وسائل النقل في المحطات الطرقية وهذا التدافع. كل هذه الجيوش من الباعة المتجولين في الطرقات والقادمة من بوادي البؤس التي "لم تجمع بعد رأسها" رغم مضي أزيد من خمسين عاما على بدء الحديث عن مشروع النهوض بالعالم القروي والإنسان القروي، فلا بادية نهضت، ولا مدينة تنظمت.
وهذا الضيق في النفوس وكراهية الناس لبعضهم وتفاخرهم بأبنائهم وازدياد أنانيتهم التي هي في تصاعد، وهذا الجهل الطاغي وهذه الأمية الضاربة بأطنابها، وهذا التهافت، وهذا الغش في العمل و الكذب والانتهازية وتفشي اقتراف الجرائم والدوس على حقوق الآخرين والرشوة والاتجار في المخدرات وباقي الممنوعات، والانغماس في الرذيلة واغتصاب الأطفال والأصول، والرمي بالمواليد الرضع في حاويات الأزبال، وتسكع الفتيات والنساء المومسات في الدروب والأزقة المظلمة والحانات.
هذا الزيف في المعاملات، هذا التظاهر المقيت لذوي العقول الفارغة بدون أي استعداد للانخراط في أي نضال صادق من أجل الآخرين، هذا التضخم في الأنا المهدم والجشع بدون حدود، حب التملك والتديك.
حكى لنا سائق الطاكسي-ونحن في الطريق- عن صفقة بيع كميات ضخمة من المخدرات بمليار سنتيم تستحق الدخول للسجن مدى الحياة للظفر بها لكي يعيش الأبناء في نظر أبيهم حياة البذخ بعده، وتهون حياته أمام حيازة أبنائه لثروة الحشيش للعربدة في الحانات والعلب الليلية بعيدا عن حياة الناس التعساء البؤساء الدراويش.
وليسقط علم الأخلاق والقيم الفاضلة وترفع راية الفساد بكل صوره ترفرف في الآفاق والجميع ألف الحياة تحت لوائها وفي جنح ظلمة عدم الوعي واللامبالاة، فتموت الضمائر رويدا رويدا ونكون قد جعلنا نطاق السيادة على مجال الكرامة مستباحا، ونقبل العيش في كنف حياة الرذيلة، وكل ذلك لأننا وبكل بساطة لم نع بعد أننا ندمر حياة الإنسان المتحضر المأمولة بما نقذف به من مواليد لا نقدر خطورة فعله كعملية غصب واغتصاب مشروع لحياة الرفاه والكرامة لأجيالنا القادمة.
2- زوجته الزاهية، ربة بيت،تشتغل عاملة في المنازل، و هما في خضم معركتهما اليومية من أجل أبنائهما التسعة الذين لم يكمل أي منهم تعليمه.
3- هشام الذي غادر الحي و الوطن منذ سنين، يقول البعض انه غرق في البحر بينما الوالد عنده يقين بان هشام سيعود يوما بحقائبه المملوءة نقودا و هدايا.
4- إبراهيم الإبن البكر،القابع دوما في إحدى زوايا الغرفة لم يعد قادرا على المشي، يعاني من إعاقة مستديمة في رجله التي ظل، يوم انهزام فريقه، يدميها تشريطا بشفرة حادة حتى تقطع عصبها و فار منها دم غزير،ملأ الأرض تحت قدمه و هو في حالة صراخ هستيري بعد إسراف في تناول الأقراص المهلوسة متحديا، بكل ما فعل برجله صديقه و خصمه "حسن الكوايري ولد المزابية"، الذي غادر قبل أيام السجن و قال له حين التقاه، "إني أقوى منك و لن تقدر علي في شيء،إن كنت رجلا فافعل مثلي"،كاشفا عن ساقه المملوءة جروحا و ندوبا.
الأبناء الآخرون يقضون يومهم متسكعين،يتناولون كل أصناف المخدرات، و يقترفون كل أشكال الجرائم و الجنح، يخلون ساحة الحي نهارا و يروعون أهله ليلا، يمتهنون السرقة لكسب قوتهم اليومي.
5- سفيان يهوى على راس إبن الجار بعصا غليظة حتى كاد أن يهشمه، فصاح أخو الضحية عباس بان لا سلم بعد اليوم و ستهشم كل الرؤوس.
6- خالد، الذي تم القبض عليه بعد الاهتداء إلى مخبئه، حيث تم العثور على المحجوزات من الهواتف وكل ما تحمله الحقائب النسوية.
7- عمر حين قرر مغادرة المدرسة دون رجعة، اغضب المعلم و كال للحارس وابلا من السباب و الشتائم، توعده بحرق دراجته النارية.و هو يوم لا ينسى عند أهل الحي، حين دخل عمر في صورة الفاتح راكبا جحشا ضالا صادفه في الطريق، فأخذه بقبضة يده من عنقه و بالقبضة الأخرى يخزه بسكين صغيرة في جنبه لكي يسرع، فيترنح الحيوان المسكين و يكاد يُسْقِط عمر الذي كان يومها في أتم فرحه و نشوته لأنه مدرك انه تحرر من سجن المدرسة و سيمتع أطفال الحي كل يوم بمغامرة جديدة، و هم يصيحون وراءه : "وا الحمار وا عمر... وا عمر وا الحمار...".
8- رضوان، أصغر الذكور، يتسلل داخل السيارة السوداء الفخمة و يمكث مع صاحبها عبدالغني بضع دقائق متكلما و مستمعا، يتسلم لفافة و علبة، و ثارت ثائرته حين اكتشف خيانة الرجل له بذكر اسمه عند الشرطة.
9- رشيد انفجر في وجه أمه و أبيه و وصفهما بأولاد الزنا، لأنه سئم و لم يعد يطق سماع صوتهما ليلا في الغرفة الواحدة يكتمان الأنفاس تارة، و تخذلهما لحظة الذروة تارة أخرى في التحكم، فتتحول هنيهة اللذة إلى فترة حرجة و عصيبة عند رضوان و سعيد.
10-سعيد الذي يطلق حينها العنان لموسيقى هاتفه المحمول، علّها تطرد صوت تأوهات أمه الزاهية، في عراك جنسي مع زوجها، الصوت الموقظ لأوجاع النفس الأمارة بالسوء، و ينبغي أن يكون هذا الليل سوءا على قاطني المنزل والحي كله. بعد أن يغادر رشيد رفقة أخيه سعيد ما أضحى في نظرهما وكرا للدعارة، فيضرمان نار الفتنة في المنزل لأي سبب و ينغصان على ساكنيه سكون الليل و هدوءه، و تكون البداية بدفع باب الغرفة بكل قوة و عنف شديدين، و باصطدام رجل سعيد ،و هو يهم بارتداء حذائه الرياضي النتن، بالسطل المملوء ماء و أكوابا في العتمة فيكسر الزجاج و يسقط قارورة الغاز و معها الفرن، و يهرق الماء و يغمر وسط المنزل، و تقوم القيامة لان الماء تسلل إلى فراش الجيران، و عكر على زوجين جوهما الحميمي و هما يهمان بمعانقة بعضهما البعض. يكون رشيد أول المغادرين و هو في حال سخط و اختلاط ذهني تاركا المنزل مشتعلا بنيران غضب كل الجيران من قاطنيه،و لا يدرك احد لماذا تسلق رشيد فجأة عمود النور القصير، و مد يده ليلوي عنق السلك ليطفئ الضوء و يعم الحي الظلام، بعد أن يكون قد أصيب بصعقة كهربائية أردته طريحا على الأرض، و هو يترنح من شدة الإصابة.
بينما سعيد يقف إلى جانبه عاري الصدر مشهرا سكينه العظيم و هو يصيح بأعلى صوته:"اخرجوا إلي يا أولاد درب الخروب، هاد الليلة إما أنا أو انتم".و الجميع يعرف السر إلا أنهم لا يعرفون السبب.
11- نجاة آخر العنقود، ظلت الأم مواظبة على الإنجاب كل سنتين و خاضعة لماكينة الجنس للظفر بها كبنت، بعد وضع ثمانية ذكور، نجاة وحدها تساعد والدتها في الأشغال الشاقة في المنازل رغم صغر سنها، و تنال من الضرب المبرح من أحد أشقائها ما يشاء حتى تنصاع لإرادته بأن تمده بما يطلب من نقود في لحظات أزمته المادية القصوى و احتياجه الشديد لمخدره والأم تتابع نمو و ترعرع جسد البنت نجاة كمشروع مستقبلي لا مفر من المراهنة عليه.
كان الظلام رهيبا والأمواج هائجة تكاد تقلب القارب بين لحظة وأخرى. لم يكن وحده بل عشرات من أمثاله يحاولون العبور.
صور بدأت تتراءى أمامه، غرفة واحدة، أثاث ضئيل تفوح منه رائحة الفقر، أم دائمة الغياب، درس ولم يفلح.
تذكر هشام السعدية، حب حياته، قضى معها أجمل أيامه في الممرات الضيقة للحي، في العوينة، وبجانب معمل "الخرقوم" مقر عملها.
اتفق مع عبدالغني على الموعد والإشارة، وفي الرابعة ليلا كان بالساحل الغربي لطنجة، لتفادي الشرطة، فاجاءه بعد الإشارة خروج أشباح بشرية كسراب النمل من شعاب رمال البحر، تزاحم الجميع بقلوب واجفة ووجوه مصفرة، قال أحدهم: "عاهنا ولا لهيه، عاربحة ولا ذبحة".
ثقل القارب بمن عليه وبدأ يغرق شيئا فشيئا: صراخ يتعالى ورعب بارد تسلل إلى قلبه. أخذ العالم يغيب عن عيني هشام بوجهه الأسود رافضا مساعدته.
هذه المآسي الأدمية، هل تعجز دولة العقل على وضع حد لتفشيها وتفاقمها، مما يعطي صورة لمجتمع غير مختل. فبتعمق هذه المآسي تعطى لطرح سؤال شرعية الحكومة مبرره، فلا شرعية لحكومة لا تقوم بدورها الذي من أجله هي قائمة ألا وهو حفظ كرامة مواطنيها ذكورا وإناثا، صغارا وشبابا وكهولا وشيوخا وصيانة حقوقهم المشروعة بضمان نصيبهم من العيش الكريم في ظل سياسة نشيطة في دوائر ومجالات إقرار حقوق الإنسان كما هي في البلدان المتقدمة التي وعت ما للمواطن والمجتمع من حقوق اجتماعية على الدولة بما تضعه من خطط وبرامج.
حين يواجه الطفل الرابع أو الخامس والده العاجز بالسؤال: "لماذا إذن أتيت بي إلى هذه الدنيا إن لم تكن قادرا على أن تضمن لي العيش الكريم؟"، فهو بذلك يوجه هذا السؤال للدولة والحكومة التي تنشط بعشوائية وتخبط ونهج لسياسة الحلول الترقيعية دون تخطيط علمي وعقلاني.
كل هذا الفائض البشري الذي يملأ المساكن وتغص به الأزقة والطرق والمقاهي وتكتظ به الأقسام والمستشفيات العمومية ومستوصفات الأحياء الشعبية وساحات البحث عن الشغل، كل هذا الزحام على وسائل النقل في المحطات الطرقية وهذا التدافع. كل هذه الجيوش من الباعة المتجولين في الطرقات والقادمة من بوادي البؤس التي "لم تجمع بعد رأسها" رغم مضي أزيد من خمسين عاما على بدء الحديث عن مشروع النهوض بالعالم القروي والإنسان القروي، فلا بادية نهضت، ولا مدينة تنظمت.
وهذا الضيق في النفوس وكراهية الناس لبعضهم وتفاخرهم بأبنائهم وازدياد أنانيتهم التي هي في تصاعد، وهذا الجهل الطاغي وهذه الأمية الضاربة بأطنابها، وهذا التهافت، وهذا الغش في العمل و الكذب والانتهازية وتفشي اقتراف الجرائم والدوس على حقوق الآخرين والرشوة والاتجار في المخدرات وباقي الممنوعات، والانغماس في الرذيلة واغتصاب الأطفال والأصول، والرمي بالمواليد الرضع في حاويات الأزبال، وتسكع الفتيات والنساء المومسات في الدروب والأزقة المظلمة والحانات.
هذا الزيف في المعاملات، هذا التظاهر المقيت لذوي العقول الفارغة بدون أي استعداد للانخراط في أي نضال صادق من أجل الآخرين، هذا التضخم في الأنا المهدم والجشع بدون حدود، حب التملك والتديك.
حكى لنا سائق الطاكسي-ونحن في الطريق- عن صفقة بيع كميات ضخمة من المخدرات بمليار سنتيم تستحق الدخول للسجن مدى الحياة للظفر بها لكي يعيش الأبناء في نظر أبيهم حياة البذخ بعده، وتهون حياته أمام حيازة أبنائه لثروة الحشيش للعربدة في الحانات والعلب الليلية بعيدا عن حياة الناس التعساء البؤساء الدراويش.
وليسقط علم الأخلاق والقيم الفاضلة وترفع راية الفساد بكل صوره ترفرف في الآفاق والجميع ألف الحياة تحت لوائها وفي جنح ظلمة عدم الوعي واللامبالاة، فتموت الضمائر رويدا رويدا ونكون قد جعلنا نطاق السيادة على مجال الكرامة مستباحا، ونقبل العيش في كنف حياة الرذيلة، وكل ذلك لأننا وبكل بساطة لم نع بعد أننا ندمر حياة الإنسان المتحضر المأمولة بما نقذف به من مواليد لا نقدر خطورة فعله كعملية غصب واغتصاب مشروع لحياة الرفاه والكرامة لأجيالنا القادمة.