HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

سي مــحــمد خويا والمنجم


ذ. عبد الكبير مولوع
الاحد 2 نونبر 2014




سي مــحــمد خويا والمنجم
في منتصف السبعينات تمكن السي محمد من إصعاد السطل الحديدي الذي يزن أكثر من عشرين كليوغراما حتى ارتطم بالسقف، ونجح أيضا في اختبارات النشاط العقلي فنال بذلك شهادتي سلامة الجسم والعقل، وأصبح عاملا في المنجم.
وبعد مرور ما يقرب الشهر كانت أول أجرة خمسون درهما أعطاها للوالدة التي سلمتها لابنتها التي دستها بدورها في أسفل الفراش المبسوط على الأرض للجلوس عليه ... وتغيرت بعد شهور بعض العادات في الأكل وأصبح بالإمكان شرب الحليب مع القهوة بدل الشاي والخبز وشراء قنينة من زيت الزيتون. ومرة في الأسبوع أو مرتين يمكن أن لا تكون طنجرة الخضر والماء خالية من قطعة لحم أحمر.
وتخلصت الأم نسبيا من ضيق اليد الشديد، وأصبح للمنزل رجل يقوم في الصباح ليرتدي بذلة زرقاء ويضع على رأسه خوذة، ويحمل في مكان وضع المسدس بالنسبة للشرطي قنينة كربون لإضاءة العتمة في المنجم حيث الحفر لإخراج الفوسفاط، والتسقيف بالخشب للتقدم إلى الإمام لمزيد من استخراجه...
ورغم أن العمل كان شاقا جدا فإن السي محمد لم يشتكي يوما، بل صارح والدته بأنه يطمح لو أنه انتقل إلى العمل ب"لاطاي" وهي آلة حفر ضخمة تمكن العامل من ربح مزيد من النقود ويرتفع الأجر إذا اشتغل "عطاشا" وذلك حين يحدد له المهندس أو مساعده مساحة معينة لا يتوقف عن العمل إلا بعد استخراج كل ما تحتويه من كمية من الفوسفاط.
وأصبح بعدها السي محمد قادرا على شراء ما لم يكن يقدر على اقتنائه قبل ذلك، وظل يمد الوالدة بأوراق نقدية تستطيع أن تشتري بها السكر والشاي والزيت والقهوة والحليب والخضر واللحم، أما غير هذا فلم يحن بعد وقته كالشروع في إصلاح المنزل الذي بقي على حاله منذ وفاة الوالد الذي قتله المنجم قبل سنين مما أورثه فيه من مرض تلوث الذات والأعضاء من غبار الفوسفاط...
ولم يكن كل التعب في المنجم لينال من ارتياح السي محمد ورضاه على حاله الجديد وهو عامل، يكفي أن يسمى عائلا ومعيلا لأسرته من أمه وإخوته ليكون ذلك مبعث فخر واعتزاز.
غير أن شيئا ما بدأ يتسرب إلى النفس، ويعكر صفاءها، ويدخلها في نفق من القلق الذي بدأ يتجلى ويتمظهر في شكل سلوكيات توحي بعدم الراحة والاستقرار النفسي.
وبدأ السي محمد يتأخر في الليل وعلم من طرف أفراد الأسرة وبعض الجيران أنه يقضي وقتا طويلا في الليل مع أصدقاء له من العمال يتناولون شيئا يشرح النفس ويخلصها من القلق.
وحكى لأخيه ذات يوم كيف كاد أحد العمال أن يرتكب جريمة واضحة وهو في المنجم حين فكر مع صاحبه بأن يأخذا بعمود من خشب ضخم وطويل ويصوبانه اتجاه أحد المستخدمين الذي كان مبلغا ومخبرا عن العمال وينقل إلى المهندسين الكبار كل أخبارهم وأسرارهم، وبناء على أقواله كان تصرف المهندسين ومعاملتهم للعمال تتصف غالبا بعدم الموضوعية والإنصاف في مكافاءتهم لهم على الأعمال الإضافية والمجهودات التي كانوا يبذلونها.
بل أكثر من ذلك أن هذا العامل المخبر كان يحدث المهندسين عن نساء العمال وعن الأحوال الحياتية الشخصية، ولهذا كله استحق هذا المخبر في نظر العمال أن تتم تصفيته وطمره في التراب، إلا أن القدر حال دون ارتكاب الجريمة. ونجا العامل المخبر بأعجوبة وبعدها بأسبوع تمت مكافأته من طرف المهندس الرئيس بمنحه امتيازات لاحظها الجميع.
ولما ضاق العمال ذرعا بمعاملة هؤلاء المهندسين، وما يصدر عنهم من سلوكات التعالي والعجرفة والاحتقار بدأ البحث عن منفذ منقذ بدل تقديم الاستقالة ومغادرة العمل وهو أمر كان غير ممكن...
ظل السي محمد ولمدة على عادته يتأخرليلا، ويستيقظ باكرا للذهاب إلى المنجم ممتطيا دراجته النارية "بيجو" الصغيرة وقلب الأم غير مطمئن، والحال ليس على ما يرام.

وفي ظهيرة يوم السوق الأسبوعي دخل السي محمد المنزل وفي يده سجادة وسبحة وطاقية بيضاء... توضأ، ودخل حجرة المنزل الكبيرة، وصلى وتحدث بعد ذلك لأخيه وأمه عن الرجل الفقيه العالم الذي يحدثهم في المسجد الكبير وقال عنه إنه عالم كبير نال إعجاب الجميع... وبعدها واظب السي محمد على الصلاة وأصبح لا يبرح ركنا من أركان البيت ويطيل في قراءة القرآن، ولا يحدث أحدا وأطلق لحيته، وأصبح قليل التحدث خصوصا مع أخواته من البنات. وقال للوالدة عليهن بتغيير ملابسهن والتقليل من مشاهدة التلفاز إلا بعض البرامج التي لا تفسد الأخلاق.

         Partager Partager

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

مقالات ذات صلة
< >

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير