أواخر الربيع في بلادي


عبدالكبير مولوع
الجمعة 4 يوليو/جويلية 2014


حكاية التجربة المغربية


كان الجو ربيعا صيفيا، و رائحة البن عطرة تفوح من جوانب الفنجان المزركش بأزهى الألوان. و كانت النفس مستوية بصفاء المزاج الذي راق برقة نسيم عليل يداعب الخاطر فلا ثرثرة يضج بها رصيف المقهى، و لا ضجيج ينبعث من أي مكان... و خصوصا من الشارع إبان وقت سكونه.
قبل السابعة يستطيع المستيقظ من نومه باكرا أن يرى الحياة في وجهها الصبوح الجميل الهادئ و المسالم. و إذن فهي ليست بالهنيهة التي تعد من سياقات لحظات اليوم المعتادة بتعكر الأجواء و الخواطر حين تبدأ الجلبة في هز أركان النفس النعسانة دون نوم و الهادئة المطمئنة دون مطلق راحة البال و نشاط الذاكرة و الخيال.
كاد أن يسقط إلى جهة اليمين حين حرك رجله اليسار ليستوي في جلسة أكثر توازنا، فارتطمت حافة الحذاء بالقائمة التي ترفع الطاولة. فارتج أديمها و تزحزح ما فوقها. سقطت نظارته و بيده اليسرى أدرك في لمح البصر الفنجان قبل أن ينقلب و يتدفق سائله، غير أن الملعقة التي انزلقت أحدثت صوتا بارتطامها مع بلاط الرصيف، مما لفت انتباه النادل الذي أسرع و احتضن بكلتا يديه منكبيه و أعاده إلى نفس الوضع، و هو يربت على ظهره قائلا:
- الاعتدال في الجلوس من عادتك، ماذا حصل هذا الصباح ؟ لا مشكل، لا مشكل، والآن احتس قهوتك بهدوء، وبصحتك.
هل من شأن هذه الرجة الصغيرة أن تعكر صفو المزاج؟. كلا فهي لن تكون بدون شك إلا موقظا للدماغ و منبها إياه إلى آفة الإعوجاج بإزالة غشاوة الأجاج.
* * * *
لعن شيطان الزلة، و انحراف الملة، و استبداد العلة. و توكل عليه و اتجه صوب محطة وقوف الحافلات للالتحاق بمكان التظاهرة الكبرى. و أخذ مكانه بمقعد إلى جانب صاحبه حين أتاه منه السؤال فجأة و هو في لج يم من دورات النفوس المتنهدة صعودا و نزولا و قد ضاقت بانتظار طويل المعين المخلص من الإحساس بثقل لحظات اليوم التي لا تعصر إلا القلق و الغم، و لا تترك قبل انسحابها المؤقت في حروبها الدائمة على الأرواح المرهقة غير الخراب و الدمار.
- قل لي مع من أنت بالضبط؟: هلا أنت مع اليمين أم مع اليسار؟
كان صاحبه هذا قد أجل هذا السؤال أسابيع منذ أن تعرفا على بعضيهما، إلا أنه لم يجرؤ على طرحه عليه بهذا الشكل الساذج إلا بعد أن سمعه في إحدى اللحظات يثنى على ذكاء و دهاء و قوة و عبقرية الملك، و ذلك حين قال لصاحبه و هما يهمان في درب عمر بالعبور إلى الجهة التي تنعطف بهما إلى المقر الرئيسي للمركزية النقابية، و هي في أوج اجتياحها لنفوس الجماهير الرافضة لواقع القمع و الحرمان.
- أنظر إنها صورة الجالس على العرش بلباسه العسكري الجذاب بقوة الأناقة و نخوة النظرة الثاقبة الواثقة. من يستطيع أن يزعم أن البلاد بإمكانها أن تحظى بتوازنها و الحفاظ على جوهر القوة الخفية فيها لولا الملك ؟ .
محير حقا هذا السؤال، أن يسأله هل أنت مع اليمين أم مع اليسار؟، رغم بداهة الإختيار وهما في الطريق إلى تجمع اليسار.
* * * *
كان يوما مشمسا ، قاومت فيه الرؤوس بالقبعات الواقية لفحات الشمس الحارقة و تمايلت فيه منتشية بسماع كل شعارات المجد للطبقة العاملة... و التضامن اللامحدود مع المناضلين المعتقلين من شرفاء الوطن...، و التعبير عن عدم الخوف أو الإنبطاح أمام زحف آلة القمع و الترهيب...، فلا أصابع سلم يجب أن ترفع و لا صوت يصدح بكلمة الحق عليه أن يسكت و لا كرامة غير منقوصة، تسمح للجسد أن تركع.
فلتحيا الطبقة العاملة و كل شرفاء الوطن ...و ليسقط كل الخونة و الإنتهازيون.
أما هو فيبدو و كأنه ليس كسائر البشر ما دام يبدو مثل من يحمل في جوفه قلبين:
الأول ينبض كلما علا صوت الجماهير بالقضاء على كل أشكال التمييز الطبقي و كل أشكال التفكير البورجوازي في عيد الطبقة العاملة حيث صوت الدعوة إلى ثورة اشتراكية تعصف بالنظام و تجثته من جذوره.
أما القلب الثاني فإنه ينبض لتدفق دم، حرص عليه ساريا في العروق تتغذى به سائر أعضاء الجسم، دون أن يهرق خطأ في النظر، أو ضبابية في الرؤية ، أو سوء تقدير للأمر.
فلا أمن و لا استقرار و لا حتى أمل في الحلم في التقدم و الازدهار إذا ما تم التفريط في الولاء لكل مكونات الشعار... ليس شعار هذا التنظيم النقابي أو هذا التنظيم الحزبي، بل شعار الوطن.
أن تكون يساريا في المغرب، ليس يعني أنك لست ملكيا. هذا اعتقاده، و لو أنه لا يقبل أن يكون من الموالين لملكية رجعية.لا يقدر فيها الملك تضحيات شعبه و حقه في الديموقراطية و التقدم... و ملك المغرب قائد محنك بدهائه... قهر الأعداء في الخارج... و عليه أن لا يقهر من ينادون بالديمقراطية و ضمان حقوق الإنسان في الداخل
- إذن لا يوجد في المغرب في نظرك يمين و يسار بل يوجد فقد ملك و يسار؟
- ستأخذ المفاهيم معانيها كما يجب حين يدرك كل من الملك و باقي قوى الشعب من الرأسماليين و العمال و المثقفين مجال تموقعه و دوره و حدود سلطته.
* * * *
و حين صاح صوت صاحبه و أعاد الصياح دون أن تنضم إليه أصوات أخرى... سحب و اقتيد دون أن يشعر بذلك أحد من الجمهور... و كمم فمه و حشر في السيارة الكبيرة للبوليس.
و في مخفر البوليس لاحظ أن دما يسيل من أنفه، و حاول إيقاف نزيفه بأصابع يده... ثم صرخ في وجه الرجلين المنتصبين أمامه بقامتيهما الضخمتين و هو جالس القرفصاء فأرجعته ركلة أحدهما إلى جلوسه قبل أن ينهض
- أسكت... أسكت
فرد منتفضا:
هذا اعتداء هذا قمع، ستنتقم منكم الطبقة العاملة... ستندحرون.
- أنت شيوعي، عفن و حقير... نحن نعرفك جيدا
- و أنتم جهاز قمعي لا أقل و لا أكثر.
* * * *
بنفس الحدة و النبرة ذاتيهما، كان قد تلقى من طرف صاحبه ذاك صفعة لفظية و هو يحاول توضيح موقفه من نظام الحكم في بلده..
قال له:
- أنت انتهازي ، لا داعي للتبرير... و لا حاجة للمناضلين الشرفاء إلى امثالك.
راد عليه :
- و أنت غير ديمقراطي مادمت لا تقبل سماع الرأي الآخر، و مهما يكن تسرعتك في الحكم على الآخر فهو أيضا ليس ملزما بإقناع نفسه بما لا يتناسب مع المنطق و الواقع و التاريخ...، المغرب وعاء مختلف.
* * * *
و حين قال عنه "جهاد" في جلسة خاصة بتقييم الأوضاع في المغرب من المنظور الإسلامي
" إنه علماني مارق رغم ما يدعيه...، و ولاءه للنظام لا غبار عليه، و يجب التخلص من أمثاله"
و هو الحكم ذاته يصدر من الجهة الأخرى، و الذي لا يقل قوة في التأثير على النفس الباحثة عن الإقامة في منطقة التوازن المنشود في سعيها الدؤوب للبحث عن الحقيقة التائهة بين صاحبين:
الأول حليق اللحية رغم إعجابه بها و هي تؤثت وجوها عزيزة عليه كتشي كيفارا،و ماركس و لينين.
و الثاني لا تنقص لحيته طولا و كثافة عن لحية أبي جهل العدو التاريخي الأول؛ أيقونة الخصم اللدود؛ عقيدة و الشبيه في إطلاق اللحية شكلا
* * * *
و لقد كانت البداية في وعيه الوطني، إدراك التوجه الذي يحصن البلاد مما هي في غنى عنه، في زمن تكالب خصوم وحدتنا الترابية و اختلافاتنا الثقافية، و قد انتهت قناعته إلى تبني استراتيجية الإختيار الديموقراطي، و ركوب سفينة النضال السلمي و القبول بأخلاق الإعتراف المتبادل بالأخطاء و الصبر على حمل الأعباء من أجل النماء المطرد للوصول إلى المغرب القوي المحصن بعبقرية الإعتدال المؤسس لمغرب العدل و الإيمان برفعة و تقدم الوطن، و العدالة و التنمية كواقع و حقيقة، و ليس كشعار للمزايدة بعزف لحن الشجن على من يضمد جراحات الوطن
* * * *
و لقد ذهبت سنوات الجمر و الرصاص و ضمت سنوات المصالحة و الإنصاف تتعاقب فصولها...
* * * *
و ذات يوم و هو يهم بالصعود إلى القطار رمق وجوها احمرت وجناتها بعد اصفرار، و لم تستطع بذلات رسمية أنيقة تكسو أبداننا اكتنزت بعد نحافة أن تنسيه سحناتها الأولى المتشنجة في زمن مضىكالت له من التهم ما حوله إلى رجل شديد الحساسية لإمتلاك أي شيئ و حتى و لو كان حقا طبيعيا كأن يحجز لنفسه مثلهم مقعدا مريحا في العربة الأمامية للقطار ليستمتع و لو لسفرة صغيرة واحدة بروعة اعتدال جو بلده.
هو الآن يعد نقوده القليلة في جيبه و يفكر في قضاء حاجته بالعاصمة بسرعة حتى لا يضطر الى تناول وجبة متواضعة في أحد مطاعم العاصمة. و فكر... و ماباله لو اندس مع هؤلاء الإخوان علهم يدعونه إلى وليمة من تلك الولائم التي يعشقونها، و من يدري فهي اليوم بدون شك ولائم أميرية... إلا أنه سرعان ما راجع نفسه و تذكر الحمية التي عود نفسه عليها منذ زمان و هي التي ظل ملتزما بها احتراما للقاعدة الذهبية للسلوك المعتدل في كل المجالات و خصوصا في الأكل و السياسة، ألا و هي لا إفراط و لا تفريط. و أن ضمان استمرار الحياةبغير مفاجآت لا تحمد عقباتها يقتضي تجنب التطرف و التعصب و ها هو الآن يرى كيف قصرت لحي بعد طول أو أنها تكاد تختفي لتظهر الوجوه على حقيقتها
* * * *
و هو على باب ديوان الوزير بالعاصمة لم يكن مديره الذي سأل عنه من أجل مقابلته من أجل وضع طلب للحصول على دعم لنشر مجموعته القصصية سوى رجل لم تتأخر ذاكرته في استرجاع صورته. نعم هو صاحبه الذي خطفته سيارة البوليس و سال الدم من أنفه و هو الآن يأخذ مكانه بكل هدوء و رزانة و اعتدال في الجلوس في مكتب فخم و فوق رأسه على الحائط معلقة صورة لجلالة الملك.
* * * *
قفل عائدا إلى البيضاء على متن القطار السريع بعد تسليم طلبه إلى الوزير في مدينة الرباط ، و أخذ مكانا في المقعد الذي يستطيع من خلف زجاج نافذته رؤية المجال، ينسحب بسرعة القطار ، يطوي الأرض بما يعمرها و ما يغري بإعمارها من إقامات أو مصانع أو ضيعات أو معاهد أو معامل أو ملاعب أو منتزهات كلها فضاءلت تستطيع المخيلة استحضارها إلا أن العين لا تستطيع رؤيتها.
ظل الإهمال لسنين يلازمها و التعمير يجافيها ككثير من فضاءات الأقاليم الدنيا و القصوى في البلاد التي لازال لا يملؤها غير الفراغ المقيت الموجع ، و سواعد الفتية و الشباب مغلولة في انتظار من يفك قيدها و يطرح عقال أدمغتها المربوطة بجبال عدم إيجاد فرص الشغل.
أين هي المعامل و المصانع إذن لتكون الطبقة العاملة؟ أين هي العقول المهندسة و الشركات المنقبة و المعمرة و أوراش البناء يغزوا غبار حوافر آلاتها الضخمة سماءها ؟ أين هي الإرادة السياسية؛ ضالتنا التي هي ولدنا الذي نمسك بيده و نحن في الآن نفسه نبحث عنه و التي هي القريب البعيد عنا... الماتل أمام أعيننا و المؤجل في أجندة قراراتنا و استقبالاتنا
* * * *
ربما لا يقدر أمثاله ممن لا يتقنون غير فن التعبير عن العواطف من المشاعر و الأحاسيس و كل ما يمكن أن ينط عنها بترف أحيانا. من مواقف لا تنبني على معرفة موضوعية بالواقع و تحدياته أم أن العين جاحدة لا ترى ما يشيد بينما رجال المرحلة واقفين و العمل قائم على قدم و ساق؟ و المضي قدما بكل السرعة على القدمين أو بالأحرى على الرجلين، اليمنى و اليسرى سيرا حثيثا ،و مستحيلا طبعا، دون اللياقة البدنية لكلا الرجلين. الرجل اليمين و الرجل اليسار.
و حين امتلأ ناظره شبعا من رؤية المشهد الممتد تؤثته صورة دواب ترعى حشيشا يميل لونه و أواخر فصل الربيع إلى الإصفرار راقه جو الطبيعة المعتدل الباعث على الرغبة في استكمال ما تبقى من الطريق مشيا على القدمين للتملي أكثر برؤية المجال الربيعي الفسيح
* * * *
و حين جاء المساء و عينه في غرفته على الشاشة تتابع نشرة الأخبار مرت صور وقوف بعض أعضاء حكومة اليمين و اليسار من الإخوان و الرفاق وراء الملك و هو يضع الحجر الأساس لانطلاق أشغال الورش الوطني الضخم الكبير.
قصت يد الملك الشريط بالمقص، و صفقت كل الأيادي من ورائه و تعالت الهتافات،و تبادل الجميع التهاني و التحيات.
ثم قام و كتب ما يشبه البيان لينشره في مجلة الدفاع عن حقوق الإنسان
* * * *.
بعد هذا اليوم التاريخي ، و قد امتلكنا سندنا، دستورنا، الذي ارتضيناه لأنفسنا مرجعا و حكما بكامل قناعاتنا و إرادتنا و بغالبية أصوات شعبنا و تزكية عليه القوم من مثقفينا و علمائنا، بعد هذا لن يقبل تجاوز للقانون أو انتهاك لحرمة أو اعتداء على حق أو تفريط فيه...
كل الحقوق مضمونة المدنية و الاجتماعية و الاقتصادية... لا احتكار لسلطة خارج إطار الدستور و لا احتكار لثروة خارج ما تقره العدالة و الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ... لا تمييز بين المواطنين في نوع الجنس و في الأصول الاجتماعية أو الإقليمية... الجميع متساوون في التمتع بالحق و القيام بالواجب، و حرية التفكير و التعبير و المعتقد مكفولة، و لا يحق لأحد مصادرتها أو إدعاء الأحقية في رسم حدودها باسم الدفاع عن ما هو مقدس، لن يقبل الشعب تقديم يديه لقيد و عقله لعقال يزعم واضعوه أن نشر" الفضيلة" يخول لهم ذلك، و لن يسمح لأحد بأن يتكلم باسمه بغير رضاه كمن يتكلم ، عن حق يراد به باطل لتحويل الناس إلى قطعان تمشي و تتوقف تبادر و تمتنع بإرادة غير إرادتها و فتاوى و أحكام غير أحكام الدستور.
و لقد حان وقت رفض الاستمرار بقبول عيش الطبقات الفقيرة في جحيم الحياة القاسية في كهوف الجبال أو مساكن الطين بغير ماء و كهرباء في السهول أو في دور القصدير الحقيرة في ضواحي و وسط المدينة.
* * * *
و حين وضع رأسه على الوسادة ليستسلم للنوم، قال في نفسه هل يجوز القول بأننا الآن فعلا دفنا الماضي و علينا أن نشرع في كتابة الصفحة الجديدة بمداد الفخر و الثقة و الإيمان بقوة الذات على تجاوز كل المثبطات التي يكرسها دوما العود الأبدي للإنسان إلى النزوع لاقتراف أخطاء الفساد و الاستبداد و الظلم و الإظلام؟
وبذلك أكون قد نصبت نفسي شاهدا على هذه التجربة في بلادي او لأقل على بدايتها ليتسنى لمن سيكتب عنها بعدي بأن يحكم على مألها و مصيرها .

مقالات ذات صلة