قطار جديد يدهس الرحامنة


رشيد مرزاق
الخميس 24 ماي 2012



ها هي ذي منطقة الرحامنة تستيقظ مجددا على هول فاجعة دامية وتُرزأ في بعض من فلذات كبدها المجروح أصلا منذ قرون خلت، لتٌفتح من جديد صفحات كتاب مليء بالأحزان نقشت سطوره مخالب الجغرافيا وكُتب عنوانه بحبر طافح بمكر الدهر والسياسة.

مناسبة هذا القول أن حوادث القطار في المنطقة ما فتئت تتزايد في السنوات الأخيرة، وفي كل مرة يكاد يتكرر السبب ذاته: غياب، بل تغييب، الممرات المحروسة. ما معنى أن تُترك الممرات دون حراسة بشرية أو آلية على مقربة من السكان وفي نقط عبور حيوية تعرف حركة دؤوبة من قبل الراجلين والركاب على حد سواء! وما معنى أن تستمر سياسة صم الآذان التي تمارسها إدارة المكتب الوطني للسكك الحديدية في تجاهل نداءات الاستغاثة التي ما فتئ يطلقها السكان المهددون بدهس القطارات! وهل يكتفي هؤلاء السكان المساكين بالدعاء لله بأن يحفظهم وذويهم من حوادث القطار!

في كل مرة تقع الواقعة نقول إن ذلك من عزم الأمور ومن قبيل القضاء والقدر، وندعو لأهالي الضحايا بالصبر والسلوان..بعدئذ تتناثر النقاشات في المجالس والمقاهي وتُدبج المقالات ويُدفن الضحايا وتجف دموع أهاليهم، ثم تمارس لعبة النسيان مكرها على الجميع.. وتستمر الحياة.

لكن الاستمرار على هذه الحال ما عاد اليوم مفهوما ولا مقبولا، فقد طفح الكيل ولم يعد ثمة من صبر على الاستهتار بدماء الناس دون الجهر بأسماء من هم مسؤولين بصفة حقيقية عن مثل هذه الكوارث، بل ومحاسبتهم بوصفهم مواطنين يسري عليهم القانون كما يسري على الجميع.

ولقد شاهدنا وسمعنا أن نفرا من كبار المسؤولين حج إلى مكان الحادث لحضور "موكب جنائزي مهيب"، ومواساة العائلات المكلومة، قبل أن يتوجه إلى مراكش لعيادة الجرحى. ومن المضحكات المبكيات خلال هذا الحضور الذي تشرفت به منطقة الرحامنة ما ورد على لسان وزير الداخلية، أمين عام الحركة الشعبية- وما أدراك ما الحركة الشعبية. فقد قال سعادة الوزير أمام كاميرا تلفزتينا الأولى والثانية الموقرتين، واللتان وصفتا الحادث طبعا بكونه "اِصطدام": إن الحادث سيكون فاتحة خير على المنطقة وسيكسبها مزيدا من الاهتمام .. يا سلام على كلام. إذن، سارعوا أيها الآباء إلى تعريض أنفسكم أو بنيكم أو بناتكم لعجلات القطار القاتلة حتى يعم الخير الوفير على منطقتكم من أم الربيع إلى تانسيفت، واجتهدي يا باقي ربوع المغرب غير النافع في الدعاء وارفعي أكف الضراعة إلى الله لكي ينعم عليك بالفواجع، واطلبي الكبيرة منها لأنه كلما كانت فاجعتك أفدح كانت فاتحة الخير أكبر ونزل عليك وفير المنّ والسّلوى من سماء الرباط صبّاً صبّا. إنه بالفعل لتصريح يعود بنا إلى زمن الديماغوجيا البائد، الذي يبدو أن الحنين إليه مازال يراود الكثيرين في مغرب ما بعد التاسع من مارس.

وبالمقابل- وعلى سبيل المقارنة فحسب- فقد تحلى السيد محمد الوفا وزير التعليم بقدر من الجرأة والمروءة حين طالب المكتب الوطني للسكك "القاتلة" بإنشاء ممرات محروسة للراجلين ولو في النقط القريبة من التجمعات السكنية. وهذا موقف يُحسب للوفا في ميزان مصداقيته لدى الرحمانيين. أما وزير النقل، المعني بصفة مباشرة بالحادث، فيبدو أنه زهد في كسب ثواب الجنازة أو لعله منشغل بإعداد لائحة من لوائحه التي يرى الكثيرون أنها لن تصلح سوى لأن تشكل طبق صحفي دسم تنهل منه الجرائد الصفراء والبيضاء وهَلُمّ ألوانا.

ولِكُلِّ هؤلاء السادة الذين تجشموا عناء السفر إلى قلب الرحامنة لأداء واجب العزاء، نقول: سعيكم مشكور

وآجركم الله على نواياكم الطيبة؛ لكن إن كانت هناك من خدمة تودون إسداءها إلى المنطقة فلتطلبوا من الخليع أن يكف علينا قطاراته فقد فرطت علينا والتهمت أبناءنا وأنعامنا، ولتأمروه بأن يجعل من أرباح مكتبه الهائلة نصيبا مفروضا لتأمين رواتب أعوان يحرسون الممرات من أجل وضع حد لنزيف الدماء على قضبان سككه الحديدية.

ومن باب التذكير فإن هذا القطار المشؤوم ليس الأول الذي يصدم أبناء منطقة الرحامنة الأحرار، فقبله صدمتنا قطارات عديدة، منها السريع ومنها دون ذلك.

فلقد صدمنا قطار الطبيعة القاسية، بأمطارها الشحيحة وحرها اللافح وزرعها الهزيل؛

وصدمنا قطار تهميش يُقال إنه مقصود، أو على الأقل كان مقصودا، بعد أن صرنا مجرد "مساخيط" نعيش في أرض تذروها "الغبرة والجير"، كما يردد ذلك المغاربة خطأ أو تجريحا؛

وصدمنا قطار فريد من صُنع الحركة الشعبية يُقال له آل الشعيبي، كان يسير بسرعة تفوق التي-جي-في فسادا ونهبا وغصبا للبلاد والعباد، فخلّف في المنطقة عاهات تنموية مستديمة؛

وصدمنا قطار الفوسفاط حينما وزع الوظائف على الغرباء وداس أبناء المنطقة ولم ينالوا منه سوى الغبار، وعندما طالبوا بحقهم في الشغل قِيل لهم اصبروا وصابروا فإن النصر آت..لكن الوقت فات فطال عليهم الأمد.

يبدو أن قصتنا الحزينة مع القطارات لم تصل بعد إلى نهايتها، وأن السكك الحديدية التي كُنّا ذات يوم نتباهى بها تندُّراً وتفكٌهاً أمام إخواننا السراغنة قد أُريدَ لها أن تتحول إلى نقطة سوداء تُضاف إلى سجل المنطقة المزدحم بالمعاناة والمشاكل .من كل ضرب ونوع

وفي الختام: ندعو الله عز وجل أن يرحم من قضوا في الحادث وينعم بالشفاء العاجل على الجرحى.. وحفظ الله الجميع من قطارات الخليع وغير الخليع!


مقالات ذات صلة