لعل الذكرى تنفع المؤمنين….


حقائق بريس
الجمعة 6 نونبر 2020






كان إدريس البصري، وزير الداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، يرسم الخارطة الإنتخابية قبل يوم الإقتراع، ويوزع المقاعد في المجالس المحلية والبرلمانية على الأحزاب كما تقتضي ذلك الخطة المعدة سلفا للمشهد السياسي شهورا قبل ذهاب الناس إلى مخادع التصويت، ولهذا كانت وزارة الداخلية تتعامل مع يوم الإقتراع كيوم عيد ولحظة إحتفال بإخراج السيناريو الموجود في المكتب الفسيح للسي إدريس، وكانت الإدارة الترابية تفصل خارطة الأصوات كما تريدها هي لا كما يريدها الناخب الذي يحمل هذه الصفة مجازا. لم يكن في المغرب سوى ناخب واحد هو السلطة، الباقي كانوا كومبارس يلعبون أدوارا ثانوية في ديمقراطية شكلية يصبح فيها اللعب السياسي ممثلا بالمعنى السينمائي للكلمة لا بمعناها السياسي والدستوري، أي ممثلا بإرادة الشعب.
سألت إدريس البصري في باريس، يوم تحول إلى معارض للنظام بعد أن كان أحد أشرس المدافعين عنه، عن تهمة تزوير الإنتخابات التي ألصقتها أحزاب المعارضة به لسنوات طويلة، فرد علي بلكنته البدوية بما معناه باللغة العربية الفصيحة: «الإتحاديون ورثوا أسلوب الحملات الدعائية عن الشيوعيين. أنا كنت أشرف على الإنتخابات تحت رعاية سيدنا، ولم أكن أزور الإنتخابات. صحيح يقع أحيانا أن ننزع مقعدا من فلان لكننا نعوض حزبه بمقعد مماثل في مكان آخر، وكل واحد يأخذ حقه. إنها التعددية السياسية في المغرب، والأحزاب لا تعرف وزنها في الشارع لهذا تروج الإشاعات».
تعجبت من منطق السي إدريس، رحمه الله، ونحن في مقهى بباريس وهو يقول: «إنني لا أزور الإنتخابات لكن إذا أخذت مقعدا من مرشح فاز في الإنتخابات عن حزب معين فإنني أعوض الحزب ذاته في منطقة أخرى بأن أعلن مرشحا له فائزا رغم أنه لم يفز في الإنتخابات»، هذا معناه أن الدولة تتدخل لتحديد الذي نجح والذي رسب، فالأول ما كان ليفوز لولا قبول السلطة به، والثاني ما كان ليرسب لو أن الداخلية أرادته أن يفوز، لهذا كانت فيلا الكيلومتر 5.5 في طريق زعير تتحول إلى قبلة لجل السياسيين قبل الإنتخابات، حيث كان السي إدريس يفتح صالونات بيته للنخبة السياسية في العاصمة، ويشرع في تلقي الطلبات والإلتماسات وحتى الإستعطافات من قبل هذه النخب التي مازالت تعيش بيننا إلى اليوم.
إنه تاريخ تزوير الإنتخابات الذي عرف مراحل متعددة، ومر من سرقة صندوق الإقتراع ووضع آخر مكانه إلى إعلان نتائج لا علاقة لها بنتيجة الفرز، إلى تدخل العمال والولاة في كل العمليات الإنتخابية، إلى أسلوب التقطيع ونمط الإقتراع واستعمال المال، وتقديم النصيحة للأحزاب بترشيح هذا والإمتناع عن تقديم ذاك. كانت الإنتخابات، التي تعتبر جوهر الديمقراطية العصرية، وسيلة لتغطية الوجه السلطوي للمغرب (يفرق علماء السياسة بين نوعين من الأنظمة السياسية غير الديمقراطية؛ هناك الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم بالحديد والنار وبدون مؤسسات ولا إنتخابات، وهناك الأنظمة السلطوية التي تستورد كل آليات النظام الديمقراطي، من إنتخابات وتعددية حزبية وبرلمانات ومجالس محلية… لكنها تفرغها من محتواها، فتصبح هذه الآليات في خدمة الإستبداد لا في خدمة الديمقراطية).
دخلت الإنتخابات في المغرب، في العهد الجديد، إلى مرحلة جديدة، فلا هي نزيهة مائة في المائة، ولا هي مزورة مائة في المائة.. إنها إنتخابات متحكم فيها، مراقبة ومؤطرة. إنها إنتخابات تخضع لطبيعة الظرفية السياسية التي تجرى فيها، فمثلا إنتخابات 2003 الجماعية جرت بعد أحداث 16 ماي، فإنعكس الجو المكهرب عليها، وطلبت السلطة من حزب العدالة والتنمية أن يقلص من نسبة مشاركته في هذه الإنتخابات حتى لا تضطر إلى التدخل بوسائل خشنة لتغيير النتائج، كما كان إدريس البصري يفعل مع أحزاب المعارضة السابقة، وفي سنة 2009 جرت إنتخابات جماعية فاز فيها حزب الأصالة والمعاصرة بالمرتبة الأولى ولم يكن قد مضى على تأسيسه سوى أربعة أشهر..
كانت الرسالة واضحة. الإنتخابات ليست مفصولة عن المناخ السياسي وعن علاقة الأحزاب بمركز السلطة… لكن في 2011، عندما كان الربيع العربي يقف عند أبواب المغرب، عرفت المملكة أنزه إنتخابات في كل تاريخها بإعتراف الداخل والخارج، وجرى إحترام الشروط الشكلية لسلامة العملية الإنتخابية دون إغفال تقنيات كثيرة أستعملت للتأثير في النتائج العامة للإنتخابات، مثل إغماض العين عن إستعمال المال من قبل الأعيان، والتدخل لإنشاء أحزاب وتحالفات وإضعاف أخرى، وفرض نمط من الإقتراع على الأحزاب، ووضع تقسيم غير متوازن للدوائر، ورفض المراقبة الأجنبية للإنتخابات، وتشتيت مراكز الإقتراع بحيث لا تستطيع الأحزاب تغطيتها كلها، وغيرها من التقنيات التي تراكمت لعقود في المقر القديم لسكن اليوطي بالرباط…
السؤال الآن: هل سنكون أمام إنتخابات على نمط انتخابات 2011، أو على نمط إنتخابات 2009 يوم 4 شتنبر المقبل؟ نحن أمام ثلاثة سيناريوهات للإنتخابات المقبلة؛ نزيهة، متحكم فيها، أو مزورة. منذ البداية أقول، وبلا تردد، إن الإنتخابات الجماعية المقبلة لن تكون على الطراز السويسري، ولن تكون على منوال الإنتخابات السورية أو العراقية أيام صدام حسين، حيث لا تخرج عن الرقم السحري 99.99%. بقي الخيار الثالث، أي إنتخابات لا هي مزورة ولا هي نزيهة، لكن كم نسبة لكل صفة من هاتين الصفتين فيها ؟ سنرى وسنراقب، لكن وظيفتنا أن نذكر لعل الذكرى تنفع المؤمنين

مقالات ذات صلة