مطالب لغوية


د.فؤاد بوعلي
الأربعاء 14 دجنبر 2011



عديدة هي المطالبات التي توجه لرئيس الحكومة المقبل عدد أحلام المغاربة وأمانيهم الطوال. فبعد زمن طويل من التدبير السيء لكل الملفات والتمثيل الأسوأ للوطن والمواطنين، استبشر المغاربة خيرا بأن سمح لهم بأن يوجهوا دفة الحياة السياسية ولو جزئيا من خلال اختيار رئيس لحكومتهم القادمة. وكما نحبذ التأكيد دوما، فالاختيار لم يكن من أجل أرقام واردة أو برنامج قطاعي أو حتى أعداد من المناصب والأجور، فالمغاربة على وعي بمقدار التحدي وعراقيل "كتائب التحريض" وهامش الحركة المتاح، لكن الاختيار نابع بالأساس من رسالية الحزب وقائده. ورساليته التي يمكنها أن تغير وجه اللعبة السياسية تتجلى في نقطتين رئيستين: العمق الهوياتي للحزب كما تجلى في أدبياته وقدر من المصداقية الأخلاقية المتوفرة في أعضائه. لذا فمن المفروض أن يجد المغاربة في الحكومة المقبلة عناوين لانشغالاتهم اليومية التي تحتوي قدرا هاما من الاهتمامات الوجودية التي تضمن لهم أمنهم اللغوي والهوياتي بقدر ضمان أمنهم الاجتماعي والسياسي.

فمنذ الاستقلال ومقومات الهوية المغربية تحارب تارة باسم الخصوصية وتارة أخرى باسم الحداثة والعلمنة، في حين كانت السلطة وحوارييها منشغلون بالتوازنات السياسية والصراعات الإيديولوجية، فكانت النتيجة هي هذه الفوضى التي وسمت المشهد اللغوي لعقود، وخلقت اضطرابا هوياتيا أدى إلى العديد من الاختلالات المعرفية تجلت في إدارة التعليم والشأن العام حتى بدأ التبشير بالانتماءات البديلة. في هذا الواقع اللامعقول ينتظر من الحكومة القادمة الحسم في المسألة وتقديم البديل الحقيقي للفوضى اللغوية من خلال إجراءات عملية تنتظرها النخبة المثقفة والمواطن العادي الذي آمن بوجوده الهوياتي قبل الإيمان بزمنه العارض. ونعتقد أن البرنامج المستقبلي ينبغي أن يعالج الاختلالات التدبيرية من خلال سياسة لغوية واضحة وراشدة أهم ملامحها:

الوعي بدور اللغة في الوجود الوطني: لعل أهم ملامح المشهد الفوضوي الحالي هو انزواء الفاعل السياسي عن الحسم في الخيارات اللغوية اعتقادا منه بعدم جوهرية المكون اللغوي في نسيج المجتمع وبعدم الحاجة إليه في ضبط التوازنات السياسية وتغليب الاهتمام بالظرفي العرضي على الحاجات الاستراتيجية للأمة . فصحيح أن الدولة وعت أخيرا بأساسية المكون اللغوي لكن ليس من خلال رؤية شمولية وإنما من أجل خلق التوازن بين الأطياف الاجتماعية المختلفة كما بدا في التعديل الدستوري الأخير. لذا فمن الضروري تنزيل رؤية لغوية واضحة المعالم مؤطرة بالضوابط القانونية والمؤسساتية المؤسسة للتدبير اللغوي عالميا: ضمان الوحدة الوطنية، والاعتراف بالتعددية اللغوية، وتحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية.
التوزيع الوظيفي للغات: جوهر الإشكال في مقاربة المسألة اللغوية هو جدولة اللغات وفق وظيفيتها. فإذا كان المغرب متعدد المكونات وموقعه الجيوـــ ستراتيجي مكنه من استقبال ثقافات وافدة متعددة، فإنه الآن، بعد التعديل الدستوري والتبشير بمجلس أعلى للغات، في أمس الحاجة إلى توزيع مجالي بين لغاته سواء الوطنية منها أم الأجنبية. فلا يمكن للغة أن تحتل مكان أخرى أو تقوم بوظائفها التي منحها لها المغاربة منذ قرون طويلة. فبعد سلسلة من الندوات واللقاءات العلمية تبين أن المشكل اللغوي من أهم المشاكل التي تعترض انتقال المغربي نحو مجتمع المعرفة. والضعف اللغوي غير خاص بلغة دون أخرى، وإن أخذت العربية النصيب الأوفر، فقد بينت الدراسات أن الطالب المغربي قد فقد قدراته اللغوية المختلفة وغدا عجزه التواصلي متناميا. وأهم مفاتيح الحل فتح نقاش علمي حقيقي بعيد عن الأدلجة والسجالات الفئوية وتحضر فيه القراءات العلمية الأكاديمية للخروج من شرنقة الفوضى الحالية.

الحماية القانونية للغة الرسمية: بالرغم من إقرار العربية في مختلف الدساتير لغة رسمية للدولة، لم تستطع الحكومات المتعاقبة منحها هذا الوضع الاعتباري والقانوني. فقد توالى على تسيير الشأن العام أسماء وهيئات آمنت بالعربية ودورها الحضاري لكنها عجزت أو تراخت في أجرأة اعتقادها. لذا لن تفاجأ حين تسمع دعوات من شخصيات علمية وسياسية تزايد في إقصاء العربية باعتبارها لغة استعمار أو غير ديمقراطية أو تقزيم دورها من خلال التلهيج والانتماء البديل. فيفترض في حكومة الأستاذ بنكيران أن تحسم في الخيار وتفرض العربية لغة رسمية بما يتعلق بها من إجراءات حمائية وقانونية وتشريعية كما صرح بذلك الدستور المعدل.

في انتظار الأكاديمية: تعب المتحدثون والباحثون في شؤون العربية واللسانيات من الحديث عن أكاديمية اللغة العربية حتى غدا الأمر أشبه بالحلم. فمنذ أن بشر الميثاق الوطني للتربية والتكوين بإحداثها في بحر موسم 2000-2001 وأعناق المهتمين مشرئبة نحو هذه المؤسسة التي من المنتظر أن تعد إطارا مرجعيا يهتم بالعربية وينسق بين مختلف الباحثين في الشأن اللغوي ويمثل لغة الضاد في الهيئات المختصة وطنيا ودوليا. لكن تعودنا على أوهام وتسويفات وزراء الحكومات المتعاقبة الذين تفننوا في إبداع تبريرات التأخر في تنزيل النص القانوني. لذا فأهم مداخل الإصلاح اللغوي هو أجراة أكاديمية اللغة العربية وتوفير الإطار القانوني والمالي والبشري لنجاحها.

إن المأمول من حكومة السيد بنكيران كثير وكثير جدا. لكن القراءة الجيدة لمبررات التصويت ودلالاته التي أعطت للحزب وحلفائه المرتبة الأولى كفيلة بأن تحدد مسار التغيير المنتظر. فالتصويت كان هوياتيا قبل أن يكون اجتماعيا أو اقتصاديا لذا فالجواب يلزم أن يكون كذلك. وأهم مداخل الحفاظ على هوية المغاربة ضدا على المنظومات القيمية الوافدة والانتماءات البديلة هو النهوض باللغة العربية عنوان الوحدة والهوية والعقيدة. من هنا البداية.

مقالات ذات صلة