
لحظة ما بعد الصمت
في فجر يوم 13 يونيو 2025، أطلقت إيران العنان لعملية عسكرية غير مسبوقة ضد أهداف عسكرية إسرائيلية، لتسجّل بذلك أول هجوم مباشر من دولة إلى دولة في تاريخ الصراع الإيراني الإسرائيلي. أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وطائرات مسيرة متطورة انطلقت من الأراضي الإيرانية نحو أهداف محددة في النقب والجليل الأوسط، في ردّ معلن على اغتيال قيادات عسكرية إيرانية على يد إسرائيل داخل العمق الإيراني قبل أيام.
لكن ما حدث لا يمكن قراءته كحدث معزول، أو مجرد تبادل ضربات. بل هو لحظة مفصلية تشير إلى تحوّل جذري في قواعد الاشتباك، وتعيد طرح السؤال الكبير:
هل لا يزال الشرق الأوسط قادرًا على احتواء أزماته ضمن حدود “الحروب بالوكالة”؟
في فجر يوم 13 يونيو 2025، أطلقت إيران العنان لعملية عسكرية غير مسبوقة ضد أهداف عسكرية إسرائيلية، لتسجّل بذلك أول هجوم مباشر من دولة إلى دولة في تاريخ الصراع الإيراني الإسرائيلي. أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وطائرات مسيرة متطورة انطلقت من الأراضي الإيرانية نحو أهداف محددة في النقب والجليل الأوسط، في ردّ معلن على اغتيال قيادات عسكرية إيرانية على يد إسرائيل داخل العمق الإيراني قبل أيام.
لكن ما حدث لا يمكن قراءته كحدث معزول، أو مجرد تبادل ضربات. بل هو لحظة مفصلية تشير إلى تحوّل جذري في قواعد الاشتباك، وتعيد طرح السؤال الكبير:
هل لا يزال الشرق الأوسط قادرًا على احتواء أزماته ضمن حدود “الحروب بالوكالة”؟
1. خلفية تاريخية: عقود من التوتر المتصاعد
العلاقة بين إيران وإسرائيل كانت، في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979، علاقة دبلوماسية نشطة وتحالفات سرية اقتصادية وعسكرية. لكن بمجرد سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية، تحوّلت إسرائيل إلى "العدو العقائدي" الأول في خطاب طهران السياسي. ومنذ ذلك الوقت، تبنّت إيران نهج "المقاومة بالوكالة"، من خلال دعم وتدريب وتسليح جماعات كحزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، بالإضافة إلى حلفاء إقليميين في العراق وسوريا واليمن.
إسرائيل، من جانبها، انتهجت سياسة الضربات الوقائية والردعية، مركزة على استهداف التموضع الإيراني في سوريا، وضرب شحنات الأسلحة المتجهة لحزب الله، واغتيال الشخصيات العسكرية والعلمية الإيرانية، أشهرها اغتيال محسن فخري زاده في 2020.
كل ذلك ظل يجري في نطاق “الظل” حيث يُقتل الجنود، وتُقصف المنشآت، دون إعلان رسمي أو مواجهات مفتوحة.
2. ما الذي تغير؟
الضربة الإيرانية الأخيرة تمثّل اختراقًا لهذا النمط التاريخي. لأول مرة منذ أربعة عقود، تقرر طهران أن تتحرك من داخل أراضيها، بلا وسطاء، بلا إنكار، وبمستوى غير مسبوق من الجرأة والعلنية.
أسباب هذا التغيير متعددة:
الاغتيالات المباشرة داخل العمق الإيراني، خصوصًا تلك التي استهدفت قادة في الحرس الثوري، وصلت إلى مستوى غير مسبوق، اعتبرته طهران تجاوزًا للخطوط الحمراء.
الضغط الداخلي الإيراني، الناتج عن العقوبات والانهيار الاقتصادي والتذمّر الشعبي، جعل من الرد العنيف أداة لإعادة تعبئة الداخل خلف “الكرامة الوطنية”.
التغيرات الإقليمية والدولية، كضعف الدور الأمريكي التقليدي في التهدئة، وعودة روسيا والصين كأطراف فاعلة، شجعت طهران على التحرك خارج منطق الانضباط القديم.
3. معادلة الردع: من الردع الصامت إلى الردع العلني
الضربة الإيرانية لا تعني إعلان حرب، لكنها تعني، بوضوح، أن إيران لم تعد تقبل بسياسة “احتواء الخسائر” التي كانت تنتهجها لسنوات. هي تعلن أن معادلة الردع التقليدية قد سقطت، وأن الرد لن يمر عبر غزة أو جنوب لبنان أو الفرات، بل من العمق الإيراني إلى العمق الإسرائيلي.
إسرائيل، بدورها، امتنعت عن شن حرب شاملة، لكنها ردّت بهجمات دقيقة، وقصيرة، على أهداف نووية ومقار عسكرية داخل إيران. الرد الإسرائيلي كان محسوبًا، متعمدًا، ويحمل رسالة واحدة: نحن لا نزال نملك اليد العليا، لكننا لن ننجرّ إلى حرب كبرى.
الطرفان، في الواقع، يتحركان ضمن “هندسة خطرة” — توازن رعب هش، حيث كل ضربة تُحسب بميزان الذهب، خوفًا من تصعيد شامل.
4. فلسطين في قلب المعادلة... ولو بصمت
رغم أن العملية الإيرانية جاءت رسميًا كردّ على اغتيالات عسكرية، فإن الخلفية التي لا تغيب عن هذا التصعيد هي الحرب المستمرة في غزة، التي تجاوزت شهرها الثامن، وسط دمار هائل وصمت دولي.
إيران، سواء اعترفت أو لم تعترف، استخدمت التصعيد مع إسرائيل أيضًا كرسالة دعم لحركات المقاومة الفلسطينية. لكن التناقض المؤلم هو أن هذا التصعيد لم يغيّر شيئًا في واقع غزة، بل ربما عقّد المشهد أكثر، وأدخل أطرافًا جديدة في الحلبة دون حلول عملية.
5. إلى أين يتجه الشرق الأوسط؟
هناك ثلاث سيناريوهات رئيسية يمكن التفكير بها بعد هذا التصعيد:
أ- التصعيد البطيء:
حيث تستمر العمليات بين الطرفين بضربات محددة، متبادلة، دون اندلاع حرب مفتوحة. هذا السيناريو مرجّح لكنه خطير، لأن الخطأ في الحسابات وارد دائمًا.
ب- العودة إلى المفاوضات النووية:
قد تستغل القوى الدولية هذا التصعيد لدفع إيران وإسرائيل (عبر وسطاء) إلى تهدئة إقليمية شاملة. هذا احتمال ضعيف في الوقت الحالي لكنه ضروري على المدى البعيد.
ج- الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة:
إذا ما قررت إسرائيل شن ضربة عسكرية واسعة على المنشآت النووية الإيرانية، أو إذا ردّت إيران بردّ أكبر من الحالي، فقد نشهد أول مواجهة عسكرية مفتوحة بين قوتين إقليميتين كبيرتين منذ عقود.
6. شرق أوسط بلا قواعد
ما يميّز الشرق الأوسط اليوم ليس فقط التوتر أو العنف، بل غياب القواعد الواضحة. لم تعد هناك خطوط حمراء ثابتة. لم تعد هناك مرجعية دولية موثوقة تضبط التوازنات. لا الأمم المتحدة، ولا واشنطن، ولا موسكو تملك مفاتيح التهدئة وحدها.
العلاقة بين إيران وإسرائيل كانت، في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979، علاقة دبلوماسية نشطة وتحالفات سرية اقتصادية وعسكرية. لكن بمجرد سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية، تحوّلت إسرائيل إلى "العدو العقائدي" الأول في خطاب طهران السياسي. ومنذ ذلك الوقت، تبنّت إيران نهج "المقاومة بالوكالة"، من خلال دعم وتدريب وتسليح جماعات كحزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، بالإضافة إلى حلفاء إقليميين في العراق وسوريا واليمن.
إسرائيل، من جانبها، انتهجت سياسة الضربات الوقائية والردعية، مركزة على استهداف التموضع الإيراني في سوريا، وضرب شحنات الأسلحة المتجهة لحزب الله، واغتيال الشخصيات العسكرية والعلمية الإيرانية، أشهرها اغتيال محسن فخري زاده في 2020.
كل ذلك ظل يجري في نطاق “الظل” حيث يُقتل الجنود، وتُقصف المنشآت، دون إعلان رسمي أو مواجهات مفتوحة.
2. ما الذي تغير؟
الضربة الإيرانية الأخيرة تمثّل اختراقًا لهذا النمط التاريخي. لأول مرة منذ أربعة عقود، تقرر طهران أن تتحرك من داخل أراضيها، بلا وسطاء، بلا إنكار، وبمستوى غير مسبوق من الجرأة والعلنية.
أسباب هذا التغيير متعددة:
الاغتيالات المباشرة داخل العمق الإيراني، خصوصًا تلك التي استهدفت قادة في الحرس الثوري، وصلت إلى مستوى غير مسبوق، اعتبرته طهران تجاوزًا للخطوط الحمراء.
الضغط الداخلي الإيراني، الناتج عن العقوبات والانهيار الاقتصادي والتذمّر الشعبي، جعل من الرد العنيف أداة لإعادة تعبئة الداخل خلف “الكرامة الوطنية”.
التغيرات الإقليمية والدولية، كضعف الدور الأمريكي التقليدي في التهدئة، وعودة روسيا والصين كأطراف فاعلة، شجعت طهران على التحرك خارج منطق الانضباط القديم.
3. معادلة الردع: من الردع الصامت إلى الردع العلني
الضربة الإيرانية لا تعني إعلان حرب، لكنها تعني، بوضوح، أن إيران لم تعد تقبل بسياسة “احتواء الخسائر” التي كانت تنتهجها لسنوات. هي تعلن أن معادلة الردع التقليدية قد سقطت، وأن الرد لن يمر عبر غزة أو جنوب لبنان أو الفرات، بل من العمق الإيراني إلى العمق الإسرائيلي.
إسرائيل، بدورها، امتنعت عن شن حرب شاملة، لكنها ردّت بهجمات دقيقة، وقصيرة، على أهداف نووية ومقار عسكرية داخل إيران. الرد الإسرائيلي كان محسوبًا، متعمدًا، ويحمل رسالة واحدة: نحن لا نزال نملك اليد العليا، لكننا لن ننجرّ إلى حرب كبرى.
الطرفان، في الواقع، يتحركان ضمن “هندسة خطرة” — توازن رعب هش، حيث كل ضربة تُحسب بميزان الذهب، خوفًا من تصعيد شامل.
4. فلسطين في قلب المعادلة... ولو بصمت
رغم أن العملية الإيرانية جاءت رسميًا كردّ على اغتيالات عسكرية، فإن الخلفية التي لا تغيب عن هذا التصعيد هي الحرب المستمرة في غزة، التي تجاوزت شهرها الثامن، وسط دمار هائل وصمت دولي.
إيران، سواء اعترفت أو لم تعترف، استخدمت التصعيد مع إسرائيل أيضًا كرسالة دعم لحركات المقاومة الفلسطينية. لكن التناقض المؤلم هو أن هذا التصعيد لم يغيّر شيئًا في واقع غزة، بل ربما عقّد المشهد أكثر، وأدخل أطرافًا جديدة في الحلبة دون حلول عملية.
5. إلى أين يتجه الشرق الأوسط؟
هناك ثلاث سيناريوهات رئيسية يمكن التفكير بها بعد هذا التصعيد:
أ- التصعيد البطيء:
حيث تستمر العمليات بين الطرفين بضربات محددة، متبادلة، دون اندلاع حرب مفتوحة. هذا السيناريو مرجّح لكنه خطير، لأن الخطأ في الحسابات وارد دائمًا.
ب- العودة إلى المفاوضات النووية:
قد تستغل القوى الدولية هذا التصعيد لدفع إيران وإسرائيل (عبر وسطاء) إلى تهدئة إقليمية شاملة. هذا احتمال ضعيف في الوقت الحالي لكنه ضروري على المدى البعيد.
ج- الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة:
إذا ما قررت إسرائيل شن ضربة عسكرية واسعة على المنشآت النووية الإيرانية، أو إذا ردّت إيران بردّ أكبر من الحالي، فقد نشهد أول مواجهة عسكرية مفتوحة بين قوتين إقليميتين كبيرتين منذ عقود.
6. شرق أوسط بلا قواعد
ما يميّز الشرق الأوسط اليوم ليس فقط التوتر أو العنف، بل غياب القواعد الواضحة. لم تعد هناك خطوط حمراء ثابتة. لم تعد هناك مرجعية دولية موثوقة تضبط التوازنات. لا الأمم المتحدة، ولا واشنطن، ولا موسكو تملك مفاتيح التهدئة وحدها.
إيران لم تعد تخاف من التصعيد المباشر.
وإسرائيل لم تعد تضمن تفوّقها الكامل.
والمنطقة ككل تبدو وكأنها تمشي فوق الحافة، بلا ضمانات، وبلا مكابح حقيقية.
وفي زمن تغيب فيه العدالة، وتُغتال فيه الدبلوماسية، تصبح الضربات العسكرية لغة التواصل الوحيدة. لكن هذه اللغة، مهما كانت فصيحة، لا تبني سلامًا، بل تؤجل الانفجار وتُهيئ له مسرحًا أكثر ظلامًا.
وإسرائيل لم تعد تضمن تفوّقها الكامل.
والمنطقة ككل تبدو وكأنها تمشي فوق الحافة، بلا ضمانات، وبلا مكابح حقيقية.
وفي زمن تغيب فيه العدالة، وتُغتال فيه الدبلوماسية، تصبح الضربات العسكرية لغة التواصل الوحيدة. لكن هذه اللغة، مهما كانت فصيحة، لا تبني سلامًا، بل تؤجل الانفجار وتُهيئ له مسرحًا أكثر ظلامًا.