HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

سؤال “الاستثمار والتنمية البشرية” بين الاقتصادي والثقافي ..


ذ.التهامي ياسين
الخميس 5 يناير 2023




سؤال “الاستثمار والتنمية البشرية” بين الاقتصادي والثقافي ..


يبدو أن مفهوم التنمية البشرية والاستثمار في المجال الاقتصادي والاجتماعي صار من المفاهيم السائدة والدارجة في عصرنا، خصوصا منذ أن برزت مجموعة البلدان المستقلة حديثا التي وصفت بأنها بلدان “متخلفة”. ولفظ “متخلفة” لم يعد يستساغ عند البعض حاليا.. وتوصف الآن هذه البلدان عند البعض الآخر “ربما تأدبا فقط” أو من باب “الطموح المشروع نحو التقدم” ، توصف بالبلدان “النامية”، لا بمعنى أنها نمت فعلا وبلغت مرتبة الدول الأخرى المتقدمة الصناعية التي قطعت أشواطا كبيرة في مجال الاستثمار في الإنسان وراهنت عليه في استثمارها كوسيلة وهدف ..، بل إن هذه الدول النامية سميت نامية ،لا بمعنى أنها نمت فعلا وتخلصت من وضعية التخلف، بل لأنها هي فقط دوما في “طريق النمو”، أو على الأصح يطمح أهلها إلى ذلك. في هذا الإطار شاع كثيرا لفظ “تنمية” كمقابل للفظ “تخلف” .وفي الحقيقة أن هذا التقابل ليس مجرد تقابل لغوي كما قد يتبادر إلى الذهن، بل إنه من ذلك النوع من التقابل الذي يتحدد به كل من الطرفين بكونه الضد للطرف الآخر، وقديما قيل “بضدها تتميز الأشياء” كما يقول المناطقة .

إن هذا يعني أن “التخلف” في هذا السياق إنما يتحدد ب”التقدم” الذي يميز الدول الأوربية المصنعة. ومثل ذلك مثل “النمو” أيضا ومن هنا يمكن أن نستنتج أن التنمية هي إذن العملية التي يراد منها أن توصل أو تنقل البلدان” المتخلفة” إلى مرتبة الدول المتقدمة أو قريبا منها.. بالنموذج هو أساسا، نموذج الآخر ويصبح الاقتداء به ضرورة أو حتمية عند الكثيرين، الاقتداء أو قل التقليد بالدول التي قطعت شوطا كبيرا في الرقي بالإنسان والمجتمع وقامت بثورات ثقافية أساسا ..كما أن المناقشات والمطارحات الكثيرة التي خاض فيها علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسيين وغيرهم في عالمنا النامي وواقعنا جزء منه عندنا حول مسألة “النموذج” في حد ذاته.. حيث كثر التساؤل حول مدى قيمة هذا “النموذج” أو غيره .إذ جزم البعض أنه لا يمكن تصور نموذج ل “التنمية” خارج النموذج الذي يستقي مقوماته من “الحضارة الحديثة”، فإن ما هو ملاحظ في كثير من هذه الأطروحات اتفاقها على “التحديث الاقتصادي” فانخرطت أغلبها في نموذج الدول التي استعمرتها سابق، الشيء الذي يجعل من التنمية عملية تستهدف الانخراط الفاعل في هذه الحضارة، وبعبارة أخرى إن التنمية عندما تطرح كبديل لما تعاني منه البلدان المستقلة حديثا أو التي انخرطت في الحضارة الحديثة،لا يمكن فصلها عن التحديث بشكل عام .وهي بهذا المعنى كانت تعني، إلى عهد قريب، التحديث الاقتصادي. وإذا ذكرت الجوانب الأخرى، الاجتماعية والثقافية، فإنما لتوضع بصورة صريحة أو ضمنية كنتائج للتقدم الاقتصادي كما يقول د. الجابري .وإذا كان التعليم، مثلا، يحظى بمكانة بارزة في أدبيات التنمية لهذه الدول النامية فغالبا ما يكون ذلك ، لا من أجل التعليم ذاته، لا من أجل نشر المعرفة العلمية وتطوير الثقافة والفكر، وهذا هو العيب الأساسي في كل الإصلاحات التي عرفها هذا القطاع ..لا ينظر إليه من أجل تحديث الذهنيات والعقليات ..بل إنما من أجل ما ينسب التعليم من دور أساسي في التنمية الاقتصادية (إعداد الأطر، الكوادر البحث العلمي الخ…).دليل ذلك تلك النظرية التي بلغ الترويج لها في الخمسينات والستينات والسبعينات. ومازالت إلى الآن؛ والتي تقول أن “التعليم استثمار “!!؟ .والتي تكرس “نظرة اقتصادية ضيقة” الى التعليم؛ هذه النظرة الاقتصادية التي مازالت إلى الآن تتجاهل الثقافة عموما : فلا ترى فيه ،أو لا تريد أن ترى فيه، إلا ميدانا اقتصاديا ينطبق عليه ما ينطبق على الميادين الاقتصادية الأخرى من ربح وانتاج مادي واستهلاك …الخ ، مع هذا الفارق هو أن مردوديته هي المستقبل أكثر منها للحاضر، تماما مثل الشجرة التي تغرسها اليوم ونحن متأكدون أنها لن تبدأ في إعطاء ثمارها إلا بعد مدة .هذه النظرة الاقتصادوية إن جاز التعبير تتجاهل الثقافة ولا ترى فيها غير “التعليم”، تجحف في الحقيقة في حق التعليم .ذلك أن التعليم غرس المستقبل كما قلنا ما في ذلك شك، ولكنه أيضا إشعاع في الحاضر. إن النظر إلى التعليم من هذه الزاوية الاقتصادية المتطرفة السائدة_ مهما اتسعت وانفرجت_ لا يستطيع أن يمسك ب” مردوديتها” كاملة، إذا كان لابد من استعمال هذا المصطلح الاقتصادي.

إن الاستثمار في التعليم يعني بناء إنسان المستقبل القادر على مواجهة كل التحديات وعوائق التخلف في الحاضر أيضا.. ذلك أن دور التعليم هو تجديد نظرة الناس الى الحياة، وتطوير علاقاتهم بعضهم ببعض، ودفعهم إلى الانخراط الواعي المسؤول في مشروع مستقبلي إنساني لهم كجماعة أو كأمة ،وللإنسانية جمعاء، فضلا عن دوره في نشر المعرفة العلمية وتنظيم الفكر وعقلنة السلوك الخ…كل هذه الجوانب المعنوية الفلسفية، التي لا تقبل القياس الكمي / الاقتصادي هي ما نعنيه هنا أساسا بالبعد الثقافي عندما نربطه بالتنمية والاستثمار، وهي جوانب لا تقل أهمية بالنسبة ل”التنمية البشرية” أو الاجتماعية الشاملة التي ليس النمو الاقتصادي إلا أحد عناصرها. بل يمكن الذهاب الى أبعد من هذا، دون أن نخشى مبالغة في القول أو إسرافا فيه، لنؤكد أن التنمية البشرية لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا نظر إليها من زاوية هذا البعد الثقافي الذي يجعل منها محصلة التداخل والتكامل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، وهي بكل تأكيد محصلة التكامل بين ما هو أصيل متجدد وما هو حديث يواصل في مجالات الحياة.. إن اتجاه التنمية اليوم يميل بوضوح إلى إعطاء نوع من الأولوية للتنمية الثقافية التي هي القاعدة الأساسية الجوهرية، باعتبار أن الاقتصاد نفسه أصبح الآن يعتمد أكثر فأكثر على الفكر والعمل والإبداع الفكري، ويستغني أكثر فأكثر عن العمل اليدوي، مما يجعل حصول الشخص على مستوى معين من “النمو الثقافي” شرطا ضروريا لإمكانية مساهمته في التنمية الاقتصادية نفسها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد أن نلاحظ أن الاتجاه السائد الآن في المجال الإيديولوجي، مجال التنظير. في عملية التغيير الاجتماعي، أصبح يعطي هو الآخر مزيدا من الأهمية للعامل الثقافي .فلم تعد الثقافة ينظر إليها اليوم على أنها الانعكاس الإيديولوجي للقاعدة المادية للمجتمع، بل إن اتجاه الفكر الاجتماعي المعاصر يميل اليوم وخصوصا عندما يتعلق الأمر بمجتمعات “ما قبل الرأسمالية” وضمنها عدد كبير من المجتمعات التي تريد الانعتاق كليا من التخلف، أو لنسميها المجتمعات المتخلفة /النامية، الى اعتبار الثقافة عنصرا حاسما وأساسيا ومؤثرا في بنية المجتمع ككل، وهو العنصر المحرك والهام داخل كيانه والذي يمكن أن يجند المجتمع ويعبئه ككل نحو التقدم..

وأخيرا، وليس آخرا، لابد من النظر إلى المسألة الثقافية بما تعنيه من مكونات مختلفة ترقى بوعي المواطن كالفنون مثلا ،وفي قلبها التعليم على أنها أصبحت في الحياة المعاصرة من جملة حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية .والاستثمار الحقيقي هو الذي ينصب على تكوين الإنسان وتثقيفه وتوعيته ونقله من حالة الجمود إلى حالة الإبداع والفعل التاريخي في مجتمعه.. فهو الرأسمال الحقيقي الذي يضمن التطور الدائم والتحديث الحقيقي.. والتحرر من سلطات الماضي بمختلف أنواعها خصوصا منها تلك التي تمارس مفعولها في الحاضر.. إن حقوق الانسان المعاصر يجب أن تبنى ليس فقط على التحرر من سلطة الماضي ،بل أيضا التحرر من مخاوف المستقبل ومواجهة تحدياتها ،الشيء الذي يستلزم بناء هذه الحقوق الإنسانية لا على “حالة الطبيعة “،كما كانت من قبل وهي حالة متخيلة طوباوية ،بل على ما يسميه كثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة على” حالة العلم” ، وهي حالة أصبحت تشكل اليوم فعلا وبالملموس حالة الطبيعة المعاصرة والمستقبلية. ومن هنا ينبغي أن لا ننظر إلى الثقافة بوصفها ذلك العنصر المكون للهوية الذي يجب أن “لا تمسه” عملية التنمية، بل أننا يلزم أن ننظر إلى التنمية الثقافية بوصفها العملية التي تنقل الهوية ذاتها من حالة الركود والجمود، جمود المفاهيم والتمثلات والتصورات التي لم تعد صالحة ولا قادرة على مواكبة التطورات والمستجدات الحضارية الكونية الإنسانية .. إلى حالة التجدد الذاتي التي تجعل منها هوية حية خلاقة مبدعة مساهمة في المشروع الإنساني الكوني.. كل هذا لا يتم إلا بالاستثمار في العنصر الأساسي الذي هو الإنسان، أي تعليمه وتثقيفه وتحديثه وتحديث محيطه أيضا، والتحديث هنا داخلي يعني بالدرجة الأولى العقلنة وتعميم المعرفة العلمية ونشرها. ومن هنا تكون التنمية هي _ بالفعل_ ذلك “العلم حين يصبح ثقافة”. وقد يتساءل البعض عن ما الذي يجعل العلم لا يلعب دوره كاملا مع العلم أنه حاضر في المجتمعات النامية في المعاهد والجامعات … بدرجة ما وبصورة ما؟ يمكن القول أن التنمية إذا كانت كما قلنا هي” العلم حين يصبح ثقافة ” أي العلم في روحه النقدية المستمرة فإن التخلف سيكون، ليس فقط هو غياب العلم، بل سيكون وهو ما يحصل في كثير من البلدان النامية حين ينفصل العلم عن الثقافة أو هو الثقافة حين لا يؤسسها العلم، إن ذلك يعني عدم اندماجها في حياة المجتمع المادية والفكرية والروحية للمجتمع…بمعنى أوضح أن حضوره في الأغلب الأعم هو من نوع حضور الجسم الغريب في محيط لا يؤسيه ولا يتأسس به، إنه ليس من نوع الحضور الساري في محيطه الفاعل فيه والمتفاعل معه.

في هذا الإطار ،إذن،يجب أن ننظر إلى البعد الثقافي في كل خطاب يستهدف التنمية البشرية الشاملة كمكون أساسي ..إن “سؤال التنمية الثقافية والاستثمار ” سيكون سؤال غير تاريخي إذا لم يطرح هذا الإنشطار الثقافي بين العصري والتقليدي كموضوع للسؤال ،كمشكلة يجب العمل على تجاوزها .بذلك ستكون التنمية تنمية لقطاعين مختلفين تماما، قطاعي تقليدي ،وقطاع عصري ، إذ لا يمكن أن يتم الجمع بين ثقافة الجمود والتكرار جنبا إلى جنب مع ثقافة الاستلاب والاختراق والتغريب ..أي ثقافة التكرار والتكلس والتقليد من جهة و ثقافة الاستهلاك والتبضع المادي والتبعية لمراكز وقوة خارجية اقتصادية من جهة أخرى ،لابد من نحث مشروع يستجيب لانتظارات المجتمع المختلفة وافراده ..ونستحضر هنا نظرية المركز والمحيط لسمير أمين ، وكتابات الجابري والعروي والخطيبي المبكرة والحالية وغيرهم .. إن الثنائية والانشطار يشكلان نقطة الضعف الخطيرة في واقعنا الثقافي الراهن ويعكسان ثقافة لم يتم بعد إعادة بنائها يتزامن فيها القديم والجديد، الداخلي و الخارجي، الأصيل والوافد.. في غير ما تفاعل نقدي وإعادة بناء وتجديد.. و”المشروع الثقافي المأمول” الذي تأجل ويتأجل باستمرار لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، “كمشروع نقدي مزدوج” يتم فيه ذلك البناء من الداخل، تحديث هذا الداخل بنيويا وممارسة الحداثة والتعاطي معها نقديا في أسسها ومعطياتها المختلفة وإعادة قراءة تاريخها ،دون انغماس أو استلاب ..يعني التماس وجوه من الفهم والتأويل والنقد المشروع والمؤسس علميا وتاريخيا .. لمسار وحقيقة كل شيء، إن ذلك هو الذي يمكن أن يسمح لنا بالخروج بوعي من حالة التأخر التاريخي المزمن التي نحياها..

إحالات مرجعية :

اعتمدت في بناء مقالتنا على أعمال وكتابات المفكرين المغاربة محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد سبيلا… وسمير أمين الاقتصادي المصري وآخرين. فهي كلها تصب في إشكالية التنمية وتعالج المسألة الثقافية وأسباب التخلف وعوائق وشروط وسبل التنمية و التحديث والتقدم …




         Partager Partager

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير