HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

لا تنمية محلية دون نظام فعلي للاتمركز الإداري


فتح الله رمضاني
الجمعة 15 يوليوز 2022




لا تنمية محلية دون نظام فعلي للاتمركز الإداري


المعلوم أن عملية تحقيق التنمية المحلية، تقوم على دعامتين أساسيتين، تتعلق الأولى بدعامة اللامركزية الترابية، التي تفرض وجود هيئات منتخبة محلية، قادرة على ضمان مشاركة واسعة للمواطنين في تدبير شؤونهم المحلية، على اعتبار أن المشاركة الشعبية واحدة من ركائز تحقيق التنمية المحلية، وهو ما يستوجب تمتيع هذه الهيئات بمجموعة من الاختصاصات والصلاحيات، حتى تطلع بأدوارها كاملة في ما يتعلق بتدبير المجال الترابي الذي تتواجد فيه، بينما تتعلق الدعامة الثانية، كدعامة رديفة وموضوعة بجانب الدعامة الأولى، بأسلوب اللاتمركز الإداري، إذ أنه لا يمكن كسب رهان تحقيق التنمية المحلية، من دون وجود وحدات ترابية بصلاحيات وهوامش تدخل واسعة، كما لا يمكن ضمان أداء هذه الوحدات الترابية لمهامها وصلاحياتها، من دون وجود إدارة محلية، بصلاحيات تقريرية، تتيح لها التدخل الفوري والناجع، من دون الارتهان إلى قرارات الإدارة المركزية.

حيث أنه لا يمكن تصور نجاح العملية التنموية على المستوى المحلي، حتى بوجود هيئات منتخبة محلية، بصلاحيات واسعة، في ظل جهاز إداري متميز بالمركزية الشديدة، خصوصا في ما يتعلق بعملية اتخاذ القرارات المرتبطة بالمشاريع التنموية، فالهيئات المنتخبة المحلية، ومن أجل أداء مهامها، وممارسة اختصاصاتها بصفة فعالة، هي في حاجة إلى وجود مصالح إدارية محلية، لها صلاحية اتخاذ القرارات الفورية، فاللاتمركز الإداري هكذا، ليس فقط أسلوبا ووسيلة لتجويد أداء الإدارة، بل هو شرط أساسي لإنجاح اللامركزية الترابية، وبالتالي تحقيق التنمية المحلية.

إن اللاتمركز الإداري، لا يعني غير توفير وسائل مادية ومالية وبشرية، لصالح البنيات الإدارية اللامركزية، والتي تشتغل إلى جانب الهيئات المحلية المنتخبة، حتى تلعب أدوارها المحورية في تحقيق التنمية المحلية، وقد شكلت الجهوية المتقدمة، التي نص عليها دستور 2011، فرصة سانحة لتدعيم مسار اللاتمركز الإداري بالمغرب، حيث أن اعتماد الجهوية المتقدمة، بكل ما يعنيه من تعزيز لمكانة وموقع الجماعات الترابية، لاسيما الجهات منها، تطلب مواكبة الدولة المغربية لهذا الخيار الاستراتيجي، وفرض عليها وبشكل جاد وعاجل مراجعة تنظيم جهازها الإداري على المستوى المحلي.


ومن هذا المنطلق، جاء إصدار الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، ليشكل دفعة قوية في ورش تدعيم نظام اللاتمركز الإداري الذي انخرط فيه المغرب وباحتشام منذ عقود خلت، وبصورة تؤسس لمنظور جديد لهذا النظام، منظور كان أساسه تأطير منطق نظام اللاتمركز الإداري الذي يريد المغرب إرساءه، ومضمونه الدفع في اتجاه إحداث مصالح لا ممركزة بصلاحيات تقريرية فعلية، وهو المنظور الذي تأسس على مضامين مجموعة من الرسائل والخطب الملكية، التي دعت بصورة مباشرة إلى التأسيس لأسلوب اللاتمركز الإداري، والقطع مع المركزية المتكلسة التي طبعت أداء الإدارة المغربية منذ عقود، من خلال مراجعة جميع المقتضيات التي تؤطر العلاقة بين مختلف الأجهزة الإدارية المركزية وغير المركزية، وإعادة ترتيب و توزيع الاختصاصات و الموارد البشرية و المالية بين المركز و مختلف المستويات الترابية، وبشكل يتأسس على التوزيع الأمثل للاختصاصات.

وبالفعل لقد شكل الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، منعطفا حاسما في مسار تدعيم اللاتمركز الإداري بالمغرب، حيث تضمن الميثاق مجموعة من المقتضيات والمستجدات التي أطرت منطق اللاتمركز الإداري الذي يبغي المغرب اعتماده، هذه المقتضيات التي همّت مرتكزات ومبادئ وأهداف اللاتمركز الإداري، كما حددت تركيبة وأدوار الهيئات الإدارية التي ستتولى عملية تتبع تنزيله، بالإضافة إلى تحديد تركيبة المصالح الإدارية اللاممركزة، التي تعتبر أساس وجوهر نظام اللاتمركز الإداري، وحددت صلاحياتها، وأطرت علاقتها مع باقي الفاعلين المحليين.

لكن وبالرغم من أهمية هذه المستجدات التي أتى بها ميثاق اللاتمركز الإداري، إلا أنها لم ترقى لمستوى التأسيس لنظام فعلي للاتمركز الإداري، قريب من أنظمة اللاتمركز الإداري التي أرستها مجموعة من الدول الموحدة والبسيطة والتي تعتبر رائدة في المجال، خصوصا في ما يتعلق بعلاقة المصالح الإدارية اللاممركزة، بباقي الفاعلين المحليين، لا سيما في علاقتها بالجماعات الترابية، وبالوالي كممثل للحكومة على المستوى المحلي، والذي أعطاه الميثاق مكانة أساسية ومحورية داخل نظام اللاتمركز الإداري الذي أطره وحدده.

على العموم فإن الرهان على نظام اللاتمركز الإداري، من أجل تحقيق التنمية المحلية بالمغرب، باعتباره واحدا من متطلبات تحقيقها، يفرض بالإضافة إلى توفير باقي الشروط التي تتطلبها، كاعتماد التدبير اللامتمركز للاستثمار، وتعزيز أدوار الجماعات الترابية، وعلى رأسها الجهات، كدعامة أساسية في العمليات التنموية، (يفرض) وجود مصالح إدارية لا ممركزة، بصلاحيات تقريرية فعلية، وبوسائل مادية وبشرية، قادرة على تمكينها من أداء مهامها ووظائفها، وإلا استمر مسلسل اللاتمركز الإداري، محكوما بنفس المنطق والفلسفة التي حكمته قبل إصدار الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، ذلك أن اللاتمركز الإداري وبالرغم من كونه ثقافة، محددة بإرادة سياسية، إلا أنها ثقافة متطورة، تحددها عمليات متطورة، وتطورها مستمر، ولا يمكن ضمان شيوعها، إلا بتأطيرها من خلال تحيين مجموعة القوانين والتشريعات والمقتضيات التي تجسد تنزيل منطق اللاتمركز الإداري، وهو ما أسس له الميثاق، وما كان يستوجب التعاطي المسؤول مع مقتضياته، حتى لا تتكرر تجربة المرسوم 2.05.1339 بشأن تحديد قواعد تنظيم القطاعات الوزارية واللاتمركز الإداري، إذ لم يتم الالتزام بمضامين هذا النص، ولم تحترم الآجال القانونية الواردة لتفعيلها.

ويمكن القول أن الخطوة الأولى والأساسية، التي كان من الممكن أن تعكس إرادة جميع الفاعلين والمتدخلين والمعنيين بنظام اللاتمركز الإداري، الذي أطره الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، هي التشديد على إلزامية الانخراط الجاد والمسؤول لكل الإدارات المركزية، والقطاعات الحكومية، في تنزيل المضامين التي تضمنها الميثاق، وذلك من أجل تجاوز حالة البطء التي اتسمت بها عملية التنزيل، والتي تجاوزت الآجال القانونية التي حددها الميثاق، وهو الواقع الذي أنذر بصعوبة إن لم نقل باستحالة تنزيل مقتضيات الميثاق في ظرف الثلاث سنوات التي حددت فيه لذلك، وهو ما يجعلنا نتساءل، هل لو كان إصدار الميثاق على شكل قانون ولم يصدر على شكل مرسوم، استحضارا للقوة الإلزامية لكل منهما، هل كانت عملية تنزيل مقتضياته ستعرف كل هذا البطء؟

فبالرغم من أن تسمية المرسوم أي “ميثاق” لها دلالة لغوية قوية، تفيد العهد، وبالتالي الالتزام والإلزام، إلا أن الواقع، والمتسم بالبطء والتماطل في تنزيل مقتضياته ومضامينه، يفيد أن الأطراف المعنية به، وخصوصا الإدارات المركزية، تتجاوز التعاطي معه كميثاق، وتتعامل معه كمرسوم بكل ما يعنيه المرسوم كتشريع فرعي.

لتكون هذه الاستهانة في عملية تنزيل ميثاق اللاتمركز الإداري، استهانة مباشرة برهان ربح التنمية المحلية، وهدر كبير للزمن التنموي، خصوصا أن رهان الدولة اليوم، هو رهان تحقيق التنمية، وهو ما كان يتطلب من أجل تفاديه:

التزام الإدارات المركزية، بالنقل الفعلي للاختصاصات التقريرية للمصالح اللاممركزة، خصوصا ما تعلق منها بمساطر الاستثمار والاختصاصات المتعلقة بها، بصورة تتجاوز منطق التفويض، سواء كان تفويضا للتوقيع أو للسلطة، فجوهر اللاتمركز الإداري الذي حدده الميثاق تأسس على منطق نقل السلطات وليس تفويضها، ما يفرض تحيين الترسانة القانونية والنصوص التشريعية في هذا المجال.

تقوية موقع المصالح اللاممركزة داخل البنية الإدارية، من خلال تقوية موقع رؤسائها، وتخويلهم صفة مدير جهوي، له نفس مكانة وقيمة وامتيازات المدراء المركزيين.

تحيين مقتضيات النظام الأساسي للوظيفة العمومية، خصوصا ما يتعلق منها بالتوظيف، وبتدبير الموارد البشرية، والتأسيس للامركزة التوظيف وللتوظيف الجهوي، والمؤسس على التعاقد بالأهداف وبالنتائج، مع التركيز على تقوية جاذبية التوظيف بالمصالح غير المركزية، وذلك بتقديم مجموعة من التشجيعات والتحفيزيات لموظفيها.

الانخراط الجدي في تنفيذ أجندة تشريعية وتنظيمية، كفيلة بالتأسيس لإطار قانوني شامل قادر على ضمان نجاح ورش اللاتمركز الإداري.

تعزيز وتقوية موقع الجماعات الترابية، وخصوصا الجهات، كدعامات أساسية في عملية تحقيق التنمية المحلية، وذلك بمراجعة القوانين التنظيمية الخاصة بها، وإصدار قانون تنظيمي واحد وشامل لكل الوحدات والمستويات الترابية، كدلالة على أهمية كل مستوى منها.



اعتماد التدبير الجهوي للاستثمار، بصورة تطلع فيها الجهات بأدوار حقيقية، حتى تكون الفاعل العمومي الأول في جميع العمليات الاستثمارية المحلية.

إعادة النظر في صلاحيات وأدوار الوالي، كمؤسسة أساسية في التنظيم الإداري المغربي، لا سيما ما تعلق منها بعلاقته بالجهات، وبالمصالح اللاممركزة، وهو ما يفرض إعادة تحديد طبيعة مهمة المراقبة الإدارية التي أناطه بها دستور 2011، التي لم يرد بشأنها كمفهوم، أي تعريف أو تحديد، في مضامين الدستور، هذه المضامين التي يفهم من سياقها، أن المشرع في حديثه عن المراقبة التنظيمية، خصوصا مع المكانة المتقدمة التي خص بها الجماعات الترابية كهيئات منتخبة، فهو كان يقصد بها، دور المساعدة والتنسيق فقط، وهو الفهم والاتجاه الذي لم تسر عليه مضامين القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، التي جعلت من مفهوم المراقبة الإدارية، مفهوما شبيها بالوصاية، حيث أعطت للوالي الحق في التدخل في كل ما يهم شؤون وأعمال الجماعات الترابية، وعليه، فإن إعادة النظر في صلاحيات وأدوار الوالي على هذا المستوى، مسألة أساسية في تكريس منطق اللاتمركز الإداري، وإلا اختزل هذا الورش في تحويل مسار المركزية، من السلطة المركزية، إلى ممثلها على المستوى المحلي، والذي يعتبر طبقا للقانون الفاعل الحقيقي والمحوري على المستوى المحلي.

صحيح أن كل هذه المتطلبات، الضرورية لإنجاح ورش اللاتمركز الإداري، مرتبطة بشكل كبير بالبرامج السياسية، لكن إدراكها مرتبط بشكل أكبر بتوافر الإرادة السياسية في تشييد نظام فعلي للاتمركز الإداري، خصوصا أنه ورش بمرجعيات عديدة، أولها مضامين دستور 2011، وثانيها الإرادة الملكية، التي عكستها مجموعة من الخطب والرسائل الملكية، ثم نظرا لأهمية اللاتمركز الإداري كضرورة حتمية سابقة حتى للامركزية الترابية، وأساسية في عملية تحقيق التنمية المحلية، وبالتالي تعزيز الديمقراطية التشاركية المحلية، بكل ما تعنيه من قيم ومن إجراءات، وبكل ما تشكله من أهمية في ضمان شرعية الدولة .

         Partager Partager

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير